أين اختفى مشروع جان فيلار حول نصوص المسرح الفرعوني؟ – ابراهيم العريس

جان فيلار (1912م – 1971م) في احدى التداريب

أين اختفى مشروع جان فيلار حول نصوص المسرح الفرعوني؟ ابراهيم العريس

مؤسس آفينيون تبنى الفكرة في نهايات حياته ومات من دونها

تخبرنا عالمة المصريات الفرنسية المعروفة كريستيان ديروش نوبلكور في كتابها “النوبياد الكبرى” الذي تروي في معظم صفحاته مذكرات الحياة التي قضت معظمها في مصر مستدلة على آثارها، كيف أن الوزير ثروت عكاشة كان قد حدثها خلال إحدى زياراته إلى باريس عن اكتشافات تتعلق بوجود نصوص مسرحية فرعونية، وأعرب عن أمله لو كان في الإمكان تقديمها في عروض مسرحية، وشاركه في الإعراب عن ذلك الأمل نفسه بطرس بطرس غالي ومجدي وهبة.

وفي البداية، وكما تروي لنا، لم تأخذ العالمة الفرنسية الأمر مأخذ الجدّية، لكنها في النهاية، وأمام إصرار ثروت عكاشة اقتنعت بالمشروع واتصلت بجان فيلار، الذي كان اختيار ثروت عكاشة قد وقع عليه. وبالفعل، وافق فيلار على المشروع، وبدأ في قراءة النصوص الفرعونية، وتوقف طويلاً عند الجانب الأسطوري والرعوي منها، وعند مشاهد الأعياد الفلاحية والكرنفالات والكفاح ضد قوى الشر، وتعبيرات الأمل والانتظار وانتصار الإله وعودة السعادة، إلخ.

وكاد المشروع يسير على خير ما يرام لولا أن جان فيلار مات في تلك الآونة بالذات، إضافة إلى انسحاب ثروت عكاشة نفسه من وزارة الثقافة في مصر بعد رحيل الرئيس جمال عبد الناصر. والسؤال هو: تُرى كيف كان يمكن للمشروع الفرعوني أن يتجسد على يد جان فيلار وقد أضحى عجوزاً وبعض ذكرى؟ ليس بإمكان أحد أن يجيب عن هذا السؤال. ما يمكن قوله هنا أن جان فيلار الذي رحل عن عالمنا ربيع 1971 في مدينة سيت مسقط رأسه في الجنوب الفرنسي، كان قد كرَّس كل سنوات حياته لفن المسرح، فبرع فيه وجدَّد، وعرف على الدوام بكونه مكتشف أشكال ومكتشف مواهب كذلك؛ إذ له يرجع، خاصة، الفضل في تقديم فنان التمثيل الكبير جيرار فيليب، كما أنه هو الذي اكتشف موهبة موريس جار الموسيقية قبل أن ينال هذا الأخير شُهرته العالمية عبر الموسيقى التي وضعها لأفلام مثل “لورانس العرب”، و”دكتور جيفاغو”، و”جسر نهر كواي”.

من الرسوم الفرعونية

ترجمة عربية مبكرة

وهنا قد يكون مفيداً أن نفتح هلالين لنذكر أن جان فيلار ربما يكون تقني المسرح الفرنسي الذي كان يعرفه الهواة العرب أكثر من أي تقني مسرحي غربي آخر، وذلك لسبب في منتهى البساطة، وهو أن كتاباً وضعه عن فنه المسرحي وعن فن الإخراج المسرحي عموماً، كان من أوائل الكتب الفرنسية المسرحية التي ترجمت في المشرق العربي في العقود الأخيرة. ومن هنا كان هذا الكتاب المرجع الوحيد المتوفر للقارئ العربي، إلى جانب كلاسيكيات ستانيسلافسكي عن فن الممثل، ولكن في الوقت الذي كان فيه جمهور الهواة العرب قد بدأ يتعرف على فيلار من خلال كتابه، كانت فرنسا بدأت تعتبره كلاسيكياً، بل متحفياً وسط تطور لديناميكية المسرح تجاوز فيلار وأسلوبه منذ نهاية سنوات الستين على الأقل، أي مباشرة بعد المرحلة التي كان فيها فيلار على رأس مهرجان آفينيون المسرحي الفرنسي الذي كان في عهده ولا يزال حتى الآن يعتبر أكبر مهرجان سينمائي في العالم، بل إنه كثيراً ما تجاوز المسرح لينفتح على العديد من الفنون المشهدية الأخرى، ومن بينها السينما.

لؤم جان لوك غودار

بمناسبة الحديث عن السينما في آفينيون في عهد جان فيلار قد يكون طريفاً أن ننقل عن فيلم فرنسي حقق قبل سنوات عن مرحلة من حياة المخرج جان – لوك غودار اقتباساً من رواية وضعتها الممثلة آن فيازمسكي عن حياتها وعملها مع هذا الأخير كيف أن أصدقاء مشتركين تدخلوا أواخر سنوات الستين كي يشارك غودار بمهرجان آفينيون ربما بعرض فيلم “الصينية” الماوي الذي كان حققه آنذاك. وحين اجتمع غودار بفيلار، وكان ثمة نجم في الأغنية الشعبية الفرنسية هو هرفيه فيلار قد لمع اسمه بأغنية “كابري” التي لا تزال حية وذات شعبية حتى اليوم، وكان جان فيلار لا يكف عن إبداء غيظه في الصحف لتشابه الأسماء بينه وبين المغني الذي غطى بشُهرته أضعافاً على المسرحي الكبير، يومها إذاً حين التقى غودار رئيس مهرجان فيلار شعر أن هذا الأخير يستخف به ولا يعتبر أن للسينما المكانة التي جعلها لها غودار، فما كان منه حين انتهى اللقاء بصورة باردة إلا أن التفت إلى المخرج المسرحي الكبير بكل هدوء وبراءة، بل بإعجاب أيضاً، قائلاً له “على فكرة، لقد أعجبتني أغنيتك الأخيرة يا سيد فيلار!”، ولنا أن نتخيل رد فعل رجل المسرح على ذلك “الإعجاب” يبديه رجل السينما!

أين صار مسرح الفراعنة؟

المهم، نعود إلى التساؤل هنا عما انتهى إليه ذلك المشروع المُدهش الذي اختفى يومها تماماً، ولا سيما بعد رحيل كل أولئك الذين كانوا على علم به كما على قناعة بأنه كان من شأنه لو اشتغل عليه حقاً وظهر، أن يحدث قلبة أساسية في التاريخ المعروف للفن المسرحي، ولا سيما بعد رحيل جان فيلار نفسه الذي يروي المحيطون به أنه حمل المشروع بقوة وحماسة وراح يحاول تحقيقه، لكنه في الحقيقة كان قد أضحى عجوزاً مُنهكا، ناهيك بأن أوضاع مصر نفسها كانت قد تبدلت، ولا سيما أن ابتعاد ثروت عكاشة عن وزارة الثقافة، وكذلك عن قنوات العلاقات الثقافية مع فرنسا، ولا سيما مع فرنسا الديغولية في شخص أندريه مالرو الذي تبنى المشروع وراح يسعى لتأمين ميزانية لا تكفي فحسب لتحقيق العرض المسرحي الكبير انطلاقاً من النصوص المذكورة، بل لتمويل مزيد من اكتشافات تتعلق بالفن المسرحي “الفرعوني”، أي كما يفترض أن الفراعنة قد مارسوه نصوصاً وعروضاً وفُرجة.

ولادة متوسطية

وهنا لا بد من العودة إلى جان فيلار نفسه الذي كان قد استوعب المشروع تماماً وراح يركض في أيامه الأخيرة لتحقيقه. فهو ولد عام 1912 في مدينة سيت الواقعة على البحر الأبيض المتوسط، وانخرط في العمل المسرحي منذ صباه بعد أن انكبّ زمناً على قراءة كل ما كان يقع تحت يديه من نصوص مسرحية كلاسيكية أو حديثة، ثم عمل مساعد مخرج وممثلاً، قبل أن يكون في 1943 فرقته الخاصة التي أطلق عليها اسم “فرقة السبعة”. وهو عن طريق تلك الفرقة بدأ يجدد في فن الإخراج عبر أكثر من أربعين مسرحية واستعراضاً أخرجها طوال حياته، منها 12 استعراضاً كان هو أول من نقلها إلى الخشبة.

ولقد عرف فيلار عبر إنجازاته كيف يُوازن بين المسرح المثقف الخلاق ومتطلبات الجمهور العريض، ومن هنا أتى مسرحه على الدوام معتدلاً وسطاً بين الإبداع الخالص والفن الشعبي العريق. ولقد قاده هذا إلى تأسيس مهرجان آفينيون الذي يُعتبر كما قلنا منذ 1947 أهم مناسبة مسرحية في فرنسا وأوروبا والعالم كما أشرنا.

جسر بين الثقافة والشعب

كما أن فيلار من خلال تسلمه بين 1951 و1963 إدارة المسرح الوطني الشعبي عرف كيف يخلق جمهوراً حقيقياً للمسرح، يتابع الأعمال ويتحمس لها ويناقشها. ومن هنا ما يُقال دائماً في فرنسا، من أنه كان أول فرنسي عرف كيف يجابه نجاح فن السينما بفرض النجاح فرضاً على المسرح. ولم يكن مُغالياً الناقد غوتييه حين كتب يوم رحل فيلار، في مقال نشرته صحيفة الـ”فيغارو”: “من دون جان فيلار، نعرف جيداً أنه لم يكن سيقدر لألوف وألوف المتفرجين غير المهيئين للسر المقدس، أن يعجبوا بمسرحية (شايو)، ولا أن يحبوا (هنري الرابع)، ولا (مقتلة في الكاتدرائية)، ولا (هذا المجنون بلاتونوف)، ولا (أوبو)، ولا (لورانزتشيو)”، وهذه كلها، كما هو معروف، تنتمي إلى المسرح الصعب والعسير على إدراك الناس العاديين، لكن إخراج فيلار لها، عرف كيف يبسط معانيها ويجعلها في متناول الناس. وفي هذا تكمن أهمية هذا الفنان الذي كان المسرح بالنسبة إليه خبز حياته اليومية، وعرف كيف ينقل العدوى إلى الآخرين.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش