أيمن زيدان وثلاث حكايا تفتح أفق المخيلة في المسرح .. – يوسف الحمدان #البحرين

من مسرحية ثلاثة حكايا -الدورة 12 مهرجان المسرح العربي
من مسرحية ثلاثة حكايا -الدورة 12 مهرجان المسرح العربي

أيمن زيدان وثلاث حكايا تفتح أفق المخيلة في المسرح .. – يوسف الحمدان #البحرين

لم تسرقه الدراما التلفزيونية عن المسرح علما بأنه أحد أهم النجوم العرب الذين تربعوا على عرشها ، إلا أن المسرح ظل ولا يزال واحدا رئيسا من أهم شواغله الفنية والحياتية والإنسانية ، يتقصى من خلاله هموم وعذابات الفقراء والمعدمين والمسحوقين في أوطان نهبت خيراتها وطهرها وما تبقى من آمال وأمنيات شاحبة ملتبسة فيها ، نهبتها سلطات القمع والقهر والتنكيل والوجع والسحل والتهجير حد الفجيعة والفدح واللا أنسنة .

ففي مسرحيته ( ثلاث حكايا ) التي أعدها عن نصوص الكاتب الأرجنتيني أوزوالد دراغون بالتعاون مع الفنان محمود الجعفوري وأخرجها للفرقة المسرحية القومية السورية وقدمها على خشبة مسرح مركز الحسين الثقافي ضمن عروض المسار الأول لمهرجان الهيئة العربية للمسرح الذي أقيم بالعاصمة الأردنية عمّان في يناير 2020 ، في هذه المسرحية يواصل الفنان السوري أيمن زيدان بحثه الدائب في العلاقات الللامتوازنة واللا منصفة والإشكالية بين السلطات البوليسية الفاشيستية والفئات المعدمة من الشعب في أوطاننا العربية وفي الأوطان المستنزفة والمستهدفة في بقع عدة من جغرافيا العالم ، متكأ على ثلاث حكايات مآلاتها نهايات سوداء معتمة لا يستطيع أي كاهل تحمل حملها القسري الثقيل والمرهق حد الزهق .

إنه بحث لم يأبه بثرثرة الزوائد والمكملات للشخصية وفضائها العام ، بقدر اهتمامه بالشخصية ذاتها ومعاناتها المنبثقة منها والمصاحبة لها طوال رحلتها القهرية المؤلمة ، وبقدر وقوفه على المفارقات التي توشك أن تُشيّء كل ذرة حية في هذه الشخصية ، بحيث تصبح هذه الشخصية عدم يحيا بلا روح إلا من حالات تستدعي وجودها بوصفها هامشا للتخييل الحي لدى المتفرج .

لذا تمكن زيدان في هذا العرض أن يشكل من ممثله فضاء سينوغرافيا حيا ، بحيث تصبح كل قطعة وكل ضوء وكل صوت في هذا العرض مقرونة أهميته بوجود الممثل ذاته ، بل أن هذه المتلازمات الأدائية تستمد وجودها بتماهيها وتنافرها مع أداء الممثل نفسه ، وهنا نلحظ مدى قدرة المخرج زيدان في أن يجعل من ممثله مؤديا قادرا على أن يتحكم في أدائه بوصفه كل ما يحيط وجوده المادي وبوصفه المؤدي المتحكم في هذا المحيط ، فهو صوت الفقر والجوع وهو الطفل الذي يحتاج إلى الطعام كي يسكت جوعه ، وهو المرأة التي تذكر زوجها بالبؤس والحاجة الدائمة للمال ، وهو المستحيل الذي يقف حجر عثرة أمام هذه الحاجة ، إنه تجسيد للمستحيل في شتى أقاصي ممكنات تجاوزه ، وهو حلم التنعم بقطع السكاكر والشوكولاتا وهو ضحيته في الآن نفسه ، حيث لم يسعف تمثال العامل المناضل ألم الأسنان الذي أودى بحياته استغلالا وعوزا وابتزازا ، وهو رهين جرذان الصفقة المشبوهة حيث الخسائر لا تخلف إلا موتا متكررا فادحا وكما لو أن البدايات أول الضغوطات القهرية ومنتهى اللهاث خلفها ، وهو الفرصة الأخيرة الثمينة لحارس مساعد مسَخ هويته رغما عن إنسانيته ليصبح أشد مسخا من الكلب الذي تمثل دوره بالنباح والعواء والمشي على أربع .

إنها رحلة حيونة الإنسان البسيط المسحول وتركيعه وتهجينه وتشييء كائنيته ، وقد تمكن المخرج زيدان من أن يقدم من خلال هذه الثلاثية الكوميدية السوداء ، عرضا أشبه بالرحلة الحنظلية لدى موكنبوت بيتر فايس ، رحلة كان الممثل إيقاعها الأول والرئيس في العرض ، فهو القادر على السيطرة على دوره والانتقال به من مشهد إلى آخر ومن موقف إلى آخر .

وهنا نلحظ أن المخرج زيدان لم يلجأ في عرضه هذا إلى التبعيد البريختي المسنفر أو الذي يروم بقصدية محاورة العقل بشكل مباشر ، بل لجأ إلى الحالة العامة في التكوين الأدائي ليشكل وينسج منها رؤية تتقاطع فيها كل تضاعيف العرض لتأخذنا إلى حالات تقرأ الحكايات الثلاث بوصفها حكاية واحدة أو بوصفها حكاية تتقاطع مع حكايات أخرى نترك المجال فيها لمخيلتنا وعقولنا لقرائتها بمعزل عن القراءة المباشرة للعرض ، إذ أن حالات التبعيد أو التغريب البريختي في العرض تأخذنا أحيانا إلى إشارات أو علامات أو محطات تدخلنا في المتشابه لا المتحول .

كما أن المخرج زيدان وهو يجوس عمق التجربة ومفارقاتها المتعددة الغريبة والمؤلمة من سعادة يقابلها نكد وبؤس ، ومن عمل يقابله ضجر وسخط ومن حياة تقابلها خدع ومآسٍ ، لم يذهب إلى أدلجة الموقف أو الرؤية كبعض من تصدى لها قبله أو ربما بعده من المخرجين انطلاقا من كون المؤلف الإرجنتيني دراغون شيوعي التوجه ، وإن كان دراغون أكثر سعة في إبداعه من ضيق رؤيتهم ، بل وقف على تجربته برؤيته الخاصة به وببحثه في الحياة السورية خاصة، لذا لم يجيرها بهذا الاتجاه كما ذهب بعض المخرجين إلى ذلك ، حيث الأدلجة تقتل الرؤية والمخيلة وتعجل بالنتائج قبل اكتشاف الأسئلة ، إنه قرأ المعاناة في هذه الحكايات وفق لعبة يشارك فيها الضحية والجلاد والمتفرج ويتبادلون فيها الأدوار، لعبة يأخذنا فيها المخرج زيدان إلى أشكال أدائية متعددة، من الفودفيل ومسرح العرائس والدمى والبهاليل ، ومسرح المشخصاتية ، إلى المسرح الجوال وإلى عربة ثيسبيس ، إلى مسرح الأقنعة، إلى مسرح الشارع، إلى مسرح نضحك فيه على أنفسنا كثيرا مثلما نضحك على الآخرين بغية استفزازهم للضحك علينا، وهل هناك اكثر استفزازا للضحك القاتل من من تحويل الدراجة الهوائية إلى مراوحة فتكية قاتلة للمكان والزمان في آن واحد ، أو تحويل ربطة العنق إلى مشنقة ؟ أو تحويل طوق الكلب إلى قلادة تزين رقبة الممثل ؟ أليس ذلك الطوق أو تلك الربطة أشبه بالنصل الملازم لمصير حياة من تورط به أو بها في النهاية ؟.

وهل هناك أكثر إثارة للمخيلة من الموت نفسه أو طريقته في هذا العرض أو من الغناء والفرح والتنقل بعربة الفرقة وسط القصف ؟

إنها حكاية مهرجانية إنسانية ساخرة غروتسكية دون إسقاطات قصدية مؤدلجة ، وحفل كبير لا يتجاوز فيه عدد المشاركين الخمسة مؤدين ، إنه اشتغال على الفرجة بعفوية أدائية احترافية لا تحتاج إلى هندسة أو هندمة ، اشتغال على كسر النمط حيث المؤدي مهيأ دائما للانتقال من دور إلى آخر ومن حالة إلى أخرى ومن إيقاع إلى آخر دون تقيد أو التزام بالنمط الذي تشكلت شخصيته فيه قبل الانتقال ، وهي قدرة تحتاج إلى مهارات أدائية عالية وفق المخرج زيدان في خلق هذه الفواصل الضرورية للأداء لدى مؤديه ، وتمكن من وضع وخلق مسافة بين الأدوار والشخصيات والمواقف ، وبين كل الأنواع والأشكال الأدائية التي تقاطعت في عرضه .

إنه من العروض التي يمكن تقديمها في أكثر من فضاء للعرض المسرحي ، سواء كان مغلقا أو في الهواء الطلق ، وهذا في حد ذاته تفكير إخراجي استثنائي في إمكانية تكييف قابلية العرض لأن يعرض في كل مكان .

فتحية من القلب للمخرج الفنان المبدع أيمن زيدان على هذه الروح المكتنزة بالحب والعشق للمسرح بالرغم من محاصرة الدراما التلفزيونية لذات الممثل النجم الخلاقة التي يتسابق أشهر مؤسسات الإنتاج الفني في عالمنا العربي على الحظوة بها .

وكل المحبة لأبطال هذا العرض بلا استثناء ، حازم زيدان وخوشناف ظاظا وقصي قدسيه ولمى بدور ومازن عباس ، ولكل من شارك في تدشين هذه التجربة المسرحية الرائعة.

يوسف الحمدان – البحرين

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش