أوبرا تاييس تستيقظ مجدداً /ضحى عبدالرؤوف المل

ما جعلني امسك القلم لاكتب عن هذه الاوبرا هو قدرة الفن على احياء الزمن واعادة الاعمال الفنية الى عصور غادرتها،  لنشعر بقيمة “اناتول فرانس”  وهو يستيقظ مجدداً على مسرح مركز الصفدي الثقافي  في طرابلس يرافقه الدكتور” سعيد الولي ” بشرح موسع لمفاتيح كل مشهد من مشاهد هذه المسرحية التي تنم عن  ادراك فني تجتمع فيه الحكاية او الرواية مع الغناء الاوبرالي  والعزف الاوبرالي ايضا، الذي يسمو في التاملات المصقولة كجوهرة اوبرالية خرجت من مصر في القرن الرابع ميلادي وضمن ثلاثة فصول في كل منها يلعب الوصف الموسيقى تعبيره الخاص،  وبتحولات لها مزاجيتها التي تخص الانسان وتذبذبه بين السماء والارض،  وبين الحب والنتائج التي تجعل من الاخر في حالة ذهنية تنقلب فيها المقاييس والمعايير عبر النص الشعري والعمق الروائي الذي انبثق منه مع المؤلف (ماسيينه  Massenet)،  فهل تموت الاعمال الفنية الخالدة بعد مرور الزمن ام تستيقظ باستمرار؟

احيت اوبرا” تاييس”  زمان العاطفة التي اججها” اناتول فرانس”  في روايته للتتناغم مع الذات في هذا العمل الفني الذي لا يمكن ان تتلاشى ملامحه ومباهج العصر الاوبرالي السخي  دراميا ، ذات التأثير الخاص على الفن الخالد المحاكي للأزمنة، وفق المقاييس الفنية العالية المزودة بالخصائص العالمية المنظمة تنظيما دقيقا.  وغير قابلة للاخطاء او لاي ضعف قد يجعلها تتدنى،  وكأنها  تعيد خلق “تاييس “على المسارح ببحث عن الروح الايمانية  التي تصارع الخير والشر والجنة والنار،  ضمن افكار تتسلسل مع خطى التأليف الموسيقي المؤاتي للحركة،  وفي وحدة زمنية ذات قفزات صوتية حركية تتوسع من خلالها التخيلات لادمغة تتلقى ما يحاكيها حسيا، وبدرجات تتفاوت فيها بين علو وانخفاض وبانصهار كلي يمزج النغمة بالحركة البصرية والسمعية ،  وقدرة على بناء المشهد كمفتاح البداية والنهاية.  او فتح المشهد واغلاقه وفق تكنيك تعبيري هارموني الوجدان،  وبدلالة دينية مهيبة صاحبت الدرجات المتحركة في ثبات منظم كسلم نصعد به مع تاييس، وعلى مختلف المستويات،  وبتوزيع هارموني حتى بين طبقات الصوت ، والاداء التعبيري الذي ابدعت به  “رينيه فلامينغ ” ان بتعابير الوجه او الاصابع وليونتها المحاكية للجسد او الصوت الاوبرالي المشدود بروح “تاييس “العائدة الى الحياة ،   فضلا عن الديكور الضخم والكوريغرافي المنجز من قبل  “سارة جو سلات”( SaraJo Slate) التي استطاعت فتح ابعاد التخيلات بترك المسافات مفتوحة للحركة وجمالها دون تضييق بصري يحصر المشهد المتوازن بصريا مع الموسيقى والصوت الاوبرالي .
جلاء روح مكابرة تتجسد في رواية” تاييس”وببهاء اوبرالي في حداثة  الزمن الذي تغيرت فيه المعايير بين السيئ والجيد  مع صوت السوبرانو “رينيه فلامينع”( Renée Fleming )في دور “تاييس”( Thaïs) حيث لا يمكن فصل طبقات الصوت عن طبقات الموسيقى المتلاحمة مع بعضها البعض،  لتشكل كتلة سمعية تستسيغها الحواس كدائرة من نور تجذبك نحوها بقوة،  وتترك النفس في نشوة “اناتول فرانس”  وما صاغته انامله لحكاية قادها  الاوركسترالي  بتبطين حسي وبحكمة سمعية لها عظمتها وتجلياتها،  كنقطة اساسية جمعت عناصر هذا العمل الذي يتمتع  بجمال مسرحي تخيلي وبتقنية خدمت المشاهد، ولعب الديكور فيه  ايضا دوره للتأثير على مزاجية البصر ، واثارة العواطف مع امرأة تقف امام المرأة وتحتاج للتأكيد منها على ان جمالها  باق مستمر مع الزمن،  وكأن المشهد بدايته “قل لي انا جميلة” لتتماشى مع المشهد الذي ينتهي “هذا انت ابي”  ليوحي  فصل التأمل المغلق موسيقيا عن الحركة المسرحية بالمشهد الذي يحلله البصر عبر التأملات الموسيقية المنبعثة من الالات واشهرها الكمان الدراماتيكي المبهر بقدرات مسك الوتر،  والتحكم بنظمه النابضة بالمشهد السمعي المتماشي مع الحالة الدينية ، والمتعمقة في رؤياها لهذه الحكاية التي اهداها لنا “اناتول فرانس” وتجسدت في اوبرا “تاييس “والعرض المبهر.
هارموني الايقاع الاوبرالي في “تاييس” التي رصدت الفن ومنحته روحية خاصة ، وكانها تجسد عصر ما بعد النابوليونية في فرنسا ،  او ما بعد كل فترة تنتج ايمانيات تتجدد بالجوهر، مما يعيدنا بالذاكرة الى الحملة  الفرنسية على مصر الموجودة في هذه الاوبرا برمال الصحراء،  وبيوت الرهبان من طين والرقص العربي المميز تعبيريا في عصرروماني  امتزج فيه الاختلاط  والفساد والابتعاد عن تعاليم الكنيسة.  مما جعل” تاييس” هي هدف احد شيوخ الصحراء والتقشف او الرهبان،  ليتلقط منها الشعلة الايمانية  ويمضي معها حيث بر الامان،  وبمفارقات جدلية  لكنها تخطت الحواس بمقدرة اوبرالية اعادتها الى الحياة،  وجعلتها تنبض على المسرح مع “غراي هالفرسون ” ((Gary Halvorson وحبكته التي جعلتني اشعر ان هذا العمل الفني لأدمغة تصنع وامزجة تسمع وقلوب ترى،  فتشعر بدهشة عالمين متناهضين احيت فيه” اوبرا تاييس” زمان العاطفة التي اججها “اناتول فرانس” يوما،  فكيف يمكن ان تروض الذات للتناغم من زمن كانت الموسيقى شجنه ووسائل تعبيره؟ او كيف لعصر تلاشت ملامح التطريب الموسيقي فيه ان يعيد الحياة لمباهج اوبرا باذخة نشأت في زمن رومانسية آفلة ؟

المصدر/ المدى

محمد سامي / مجلة الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *