أمل ممدوح تكتب : سوء تفاهم .. تجريد المأساة حتى تعرية العبث

بنفس بساطة تصادمك مع أحدهم في الطريق أو تبادلك أمتعة بشكل خاطىء أو اتصال خاطىء مما يوجب اعتذارا بسيطا عن “سوء تفاهم “، قد يفقد شخص حياته وأم إبنها ببساطة في مأساة بلا مبالاة “سوء تفاهم” ؛ هذا العنوان البليغ لمسرحية الكاتب والفيلسوف الفرنسي “ألبير كامو”برؤية تعري عبثية الحياة بشكل يفضي لعدميتها، قدمت هذه المسرحية بنفس إسمها ملتزمة إلى حد كبير بنصها الأصلي فرقة نادي ثقافة الإسماعيلية للمخرج أحمد كمال، وفيها يعود “جان” ثريا من سفر بعد غيبة استمرت 20 عام ابتعد فيها طفلا عن أمه وأخته؛ حالما بأن تتعرفا عليه دون أن يصارحهما آملا في نداء الدم ، لكن الأم وابنتها اللتان تعيشان في فندق ريفي صغير قريب من النهر، لا يشغلهما وسط كآبة حياتهما الواجمة سوى العيش اعتمادا على قتل رواد الفندق وسرقتهم كوسيلة عيش؛ لم تكن حواسهما لتصغي لذلك، فبينما يفكر الإبن في اللقاء القادم ومصارحة أمه وأخته، كانتا تخططان لقتله بالسم بمعاونة خادمهما الأصم ، حتى وإن راود الأم حدسا بأنه ابنها.

رغم اعتماد بناء العرض على حبكة تقليدية كما تكون التراجيديا الكلاسيكية الإغريقية، بما فيها من وحدة الزمان والمكان حيث تدور الأحداث في مكان واحد وفي يوم واحد إلا أن استخدام هذا البناء في إثبات عبثية الحياة يعد مزيدا من سخرية كامو ضمنيا في الحقيقة ،كما أن البطل هنا لا يدفع ثمن سقطة بمعناها الأخلاقي بل إن خطأه يكمن في نظرته الرومانسية وسط عالم مادي تمثله الأم والأخت، فقد راهن على صوت الطبيعة بينما في الجانب الآخر مات هذا النداء فيهما وطغت ماديتهما عليه، حتى وإن ندمت الأم أو ترددت مفضلة الانتحار بعدها إلا أن الوضع صنيعتها، تساوى هنا قدر الجاني والبريء وضمهما نفس الهلاك والمصير، هنا لم يكن النقد للإنسان بل النقد للقدر الذي لن يصغي له، هذا الإبن /الأخ كان بعودته يمكن أن يحل مشاكل أمه وأخته ويحقق أحلامهما لكنهما قتلتاه، ومصارحته لهما أو عدم عودته كانا يمكن أن يحفظا حياته لكنه فعل ففقد حياته، وكأنما الحياة تحاك بثبات نحو الضديات واللا معنى وصولا لبلادة مارتا الأخت / الإبنة بالاعتراف لزوجته بقتله،”مارتا” تلك الفتاة الصارمة فاقدة العاطفة ومظاهر الأنوثة، سجينة نفسها التي تحلم بالحرية عبر الموت، يحاك كل شيء ويسير تحت مرآى القدر الذي يبدو أصما متمثلا هنا في الخادم العجوز الذي نبقى نظنه كذلك حتى نكتشف العكس في النهاية.

اختار العرض لموضوعه ديكورا تجريديا إلى حد كبير كان مميزا وموفقا لمصمم الديكور محمد علي، صور فندقا خشبيا من خلال ثلاث كتل تملأ مساحة المسرح ،أحدها في اليمين وأخرى في اليسار وثالثة في وسط العمق ، بشكل مكشوف يكشف أمامنا ما بداخل كل كتلة أوغرفة لتبدو الثلاث كتل مكشوفات أمامنا ، في وضع في حقيقته يسمح بمراقبة تأملية تلصصية من بعد للموقف بأكمله دفعة واحدة، بما يبدو من تتابعات حياكة المأساة إمعانا في تضخيم الحالة العبثية العدمية، الأمر نفسه الذي سمح بحرية حركة تغذي الإيقاع في ظل ثبات المنظر المسرحي، كما أحسن استخدامه في صنع استعارات ودلالات بصرية من خلال تقابلات التضاد بين كتلتين تتتقابلان من آن لآخر يضم كل منهما شخصا بما يوحيه الأمر من حالة حاجزية أو متخاصمة أو متضادة مثلا، واستخدام المستوى الأعلى لدلالات أخرى أحسن استخدامها دراميا كأن يقف فيه العجوز محركا قطع الأثاث طافئا وموقدا الإضاءة كيفما أراد في وضع يوحي بكنهه وتحكمه، فالعرض صنع دلالات وإيحاءات جيدة مناسبة لما تضمنه من دراما، مع حالة إضائية مناسبة وحساسة لمحمد سالم حوت أيضا مواقف التضاد اللوني القصدي في عدة مواقف بين ساخن أحمر عادة كان يتواجد به جان يقابله بارد أزرق يضم إحدى الشخصيات الثلاث الأخرى أو كلهم ، مع اختيارات موسيقية مناسبة لحالة خافتة التتبع، ففي العرض حالة إخراجية واعية مجتهدة ، نصل معها للأداء الذي كان في إجماله مناسبا لولا تذبذب الإيقاع في الإلقاء لدى معظم الشخصيات ليصبح إلقاء رتيبا أحيانا لا يضيف معنى، إضافة للانخفاض الصوتي الفجائي لدى معظمها أيضا وشبه الدائم لدى بسنت مجدي مؤدية دور”ماريا”رغم أدائها المناسب، دولت حامد “الأم” قدمت أداء عميقا تلمسه بصدق بصوتها وتعبيرات وجهها، إلا أن ملابسها لم تكن مناسبة لشخصية في الريف الأوروبي فحتى غطاء الشعر كان يمكن أن يتخذ شكلا يناسب هذا المجتمع وبيئته، عمر عادل “جان” كان مناسب الأداء في إلقائه خاصة وتعبيراته الجسدية، مي عبد الرحمن”مارتا” كانت مجتهدة جيدة الأداء لكن لم يكن محبذا كثرة الدبيب على الأرض فقد بدت طفلة غاضبة أكثر منها شخصية سيكوباتية تعيسة تحوي غضبا، أما محمد نوح من قام بدور العجوز ورغم صمته طوال العرض إلى نهايته فكان قوي الحضور والأثر، ألبس الشخصية غموضا جذابا بلمحة رعب خفي يمتزج بطيبة مثيران معا للحيرة والغموض المشوق .

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *