أمل ممدوح تكتب : توبا داي .. الملائكة تدق أجراس العالم

المصدر / محمد سامي موقع الخشبة

أجمل ما في الأسطورة أنها تحفظ براءة وعي العالم الأول، بخطوط مجردة ضاربة في الخيال، تلخص واقعا يصلح لأزمان، عدة ترد أحداثه لعوامل أولية وحكمة بسيطة نقية براقة التداول،

كمحفظة للقيم أحيانا حين تشتد الضغوط، وفي بولندا الكثير من الأساطير؛ هذه الدولة مفصلية الحدود ومصب خصومتين دوليتين كبيرتين كألمانيا وروسيا، تقاوم بها وبتراثها وباستدعاء مواطن قوتها الأصيلة؛ اجتياح الحزب اليميني المتعصب، والعرض الأوبرالي أو أوبرا العرائس ” توبا دي والملائكة ” لفرقة المسرح الأكاديمي بوارسو ببولندا للمخرجة ودراماتورج العرض”إيميليا باتلايفسكا”، وهو أول أوبرا من هذا النوع ببولندا، يستدعي إحدى القصص الفولكلورية أو الأسطورية البولندية في أول عرض بولندي يخاطب الطفل والكبير من خلال مسرح العرائس الغنائي المناسب بشكل كبير للحكاية الشعبية، في عمل جماعي لطلبة التخصصات الفنية المختلفة. العرض هنا مستوحى من جرس ” توبا دي” أكبر أجراس بولندا وأوروبا في العصور الوسطى والذي نسجت حوله قصة فولكلورية كتبتها “كاتارزينا باوليكا”مستدعية فيها مشاعر فطرية للانتماء للأرض وحبها الصحي السامي وإزكاء مزاياها الطبيعية والقيمية.

في عصر نهضة مدينة “تورون” البولندية في القرن الخامس عشر حيث نهايات العصور الوسطى وإرهاصات عصر النهضة بل بدايات الأوبرا الإيطالية تدور أحداث هذا العرض الأوبرالي ، بحكاية مبسطة أحادية الخط السردي وبسرد تقليدي له بدايته ووسطه ونهايته السعيدة كعادة الحكايات، عن الصراع التقليدي بين الخير والشر وضرورة انتصار الخير لأجل العالم كله، ففي أرض تورون ببولندا الخصبة حيث وفرة الأمطار والخير وحيث يزدهر العمران ويكثر الطيبون، لم يخل الأمر من عناصر شريرة يدفع ثمن أفعالها الجميع، فتاجر وامرأة من المدينة يمثلان الشر في الحكاية، هذه المزاوجة النوعية في الحالة الشريرة بذاتها تعطي إلماحا باحتمالية وجود أو قدوم نسل شرير أيضا، هذان الشريران طماعان يكذبان ويسرقا الغرباء فتحل بسببهما لعنة تخبر الملائكة بها عالما بالبلدة، محذرة من نهاية العالم بعد يومين إن استمر هذا الوضع، مما يستوجب تعاون أهل البلدة جميعا للقبض على هؤلاء مع السعي لترضية الرب، ما جعلهم يفكرون في صنع جرس كبير ترضية له وتطهيرا لهم، هو جرس “توبا دي ، قدم هذا في شكل أوبرا كوميدية يتناسب مضمونها مع طبيعة مواضيع ذلك العصر من خير وشر وقيم كلية وأخلاقية، وكذلك قالبها اللحني الذي أبدعته المؤلفة الموسيقية “ماجدالينا زينك” بلحن بديع بسيط ومحقق لسمات هذا العصر الموسيقية، حيث الحالة المونوفونية الأفقية والخط اللحني الأحادي المبسط في العموم المناسب لبساطة وتقليدية القصة وأبعادها الواضحة الصريحة، بثيمة لحنية متكررة وآلات النفخ الخشبية والهارب السائدة آنذاك مع استخدام صوت الجرس بشكل محبب فيه طفولية تناسب مخاطبة وجدان الطفل وتناسب ارتباطه الدرامي بالقصة، ليصبح اللحن بوليفوني هارموني مبسط بلحنين على الأكثر، في حالات التصاعد الدرامي أو اشتداد الصراع، مع حالة من الغناء الجماعي الترتيلي كتأثيرات للشكل الكنسي الذي كان سائدا وقائدا للفنون الموسيقية في العصور الوسطى..بأداء يعطي شعورا دراميا موفقا بالحالة الجمعية التي تمثل صوت شعب” تورون”، مع أصوات مناسبة دراميا لطبيعة الشخصيات، حيث الشريرة منها كانت رفيعة الصوت باهتة بينما الأصوات الخيرة كالعالم الذي تلقى النبوءة أكثر غلظة ورصانة وأقوى وقعا.

تنتمي هذه الأوبرا المسرحية لمسرح الدمى، فشخصياتها من الدمى سواء القفازية والتي تمثل الشخصيات الرئيسية في العرض، أو دمى الماريونيت التي تتحرك بخيوط بيد عارضها، من طراز الدمى الصقلية التراثية المصنوعة من الخشب والأدق تجسيدا، وقد اختيرت هذه لتمثيل عامة الناس بالبلدة، لتكون الدمى جميعها متمايزة الأزياء مع انتمائها لطبيعة أزياء هذه الفترة الزمنية سواء للرجال أو النساء، هذا التنوع في أنواع الدمى وطريقة حركتها أعطى قدرا من التمييز للشخصيات من جهة وقدرا من حيويتها الحركية، حيث تطل الدمى القفازية من خلف ساتر من الحبال المتجاورة تمثل بما يعكس عليها الأماكن المختلفة من مباني المدينة أو غرفة العالم أو المدينة من بعد، تسهل أيضا التنقل أفقيا ورأسيا وعشوئيا للدمى، فتعطي حرية محببة تناسب طبيعة العرض وتنوعا إيقاعيا، مع تضخيم في حجم العينين والأنف يبرز ملامح الشخصيات الرئيسية ويدعم تأثيرها وحسها الكوميدي، إضافة لاستخدام الإضاءة الألترا للعينين في الظلام ، مما يزيد حالة الجذب والتأثير، مع استعارة الأسلوب الياباني في مسرحيات “البورناكو” من حيث الظهور الكامل لعارضي الدمى ،وهم في العرض رجلين وامرأتين متشحين جميعا باللون الأسود كحالة حيادية، يتبنون روح الشخصيات المقدمة ويضيفون حيوية لها كأنهم امتداد حر لها، بحالة من الجدية الحرفية والتناغم بين العارضين بشكل منضبط بلا ارتباك، ومن أفضل مشاهد العرض صياغة، كان مشهد جمع تبرعات الأهالي من أدواتهم الخاصة وأموالهم أو مجوهراتهم لبناء الجرس، حيث عبر عنه ببساطة وخفة ظل بتمرير الأشياء عبر أيادي العارضين الممثلين للناس من خلف الستار لتضع اليد الأخيرة الأشياء في الصندوق بإيقاع موسيقي تتابعي مبهج، وبما يوحي بإخفاء وجوه أصحاب الأيدي بحالة التوحد والاجتماع بالعطاء.

ديكور العرض جاء شديد الاتساق مع طبيعته ومضمونه.. بسيطا طفوليا مجردا، لكن بتقنيات عصرية ساعدت على إضفاء الإيضاحات الكافية مع كريوجراف الحركة، بما يساعد على فهم الأحداث بوضوح دون حاجة للكلام أو اللغة، فالمسرح خال من أي قطع إلا من ستارة من الحبال في الخلفية تنعكس عليها المناظر المبسطة المبهجة،تطل من خلفها العرائس القفازية، ويعرض عليها “البروجكتور”رسوما متحركة بشكل طفولي بسيط يبين السحب والأمطار في بداية العرض ونمو الأشجار إشارة لخصوبة أرض المدينة وظهور أبنية معمارية من طراز ذاك الزمن، تتزايد في مستويين أمامي وخلفي كنوع من التجسيم المبسط للرسوم، كنوع من التغني والزهو بطبيعة بلادهم ونمائها وتاريخها، مع رسم في النصف الثاني يبين تداعيها وأفولها وحريقها وتراجع الطبيعة، ثم لوحة للجرس المنتظر وبنائه، مع رسوم مبسطة كرسم السحب والقلوب، ونلحظ في مشهد التصاعد وجود ملاك واحد نتابعه حتى يرحل بينما تكثر الملائكة وتعود في النهاية السعيدة، وأحسن استخدام إضاءة الألترا خاصة في الدقائق الأخيرة إيحاء بحالة ملائكية وإتمام الحالة التطهرية، ليتم أفول الضوء كما يكون مذاق إتمام الحكايات، فالعرض بدون راو لكنه سار كما لو كان بتكنيك الراوي الذي يبدأ تدريجيا بعبارة “كان يا ما كان” مثلا وما يعقبها من تدرج يبدأ بمعلومات أولية يتم البناء عليها، وصولا للنهاية السعيدة التي تضع كل النقاط فوق بعضها حتى النقطة الأخيرة التامة وانسحاب الحالة نحو الاكتمال، فروح الحكاية سائدة إخراجيا مع حالة مرحة جذابة جادة منضبطة معا تحسب لمخرجة العرض وكل المشاركين به ومن أهمهم مؤلفة موسيقاه.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *