“ألعاب للموتى” و”انتظرتهم” و”كوليرا” تمظهرات زمن الفجيعة العراقية مسرحياً – العراق

يُعتبر المسرح واحداً من أهم وسائل التثقيف والتوعية والتوجيه للمُجتمع , وهوَ لسان حال جميع أبناء الشعب بوصفهِ مرآة الوطن , وحينما يتعرض الوطن لأخطار تُهدد أمنه وسلامة أراضيهِ , فإن المسرح يكون في الواجهة , لذا نجد أن المُشتغلين فيه هُم المُتصدون لتجسيد الهَمْ الإنساني رؤيوياً والعابر لكُل ما هوَ فئوي يتسم بضيق التشخيص لأصل المحنة ومنبعها.
وفي مسرحنا العراقي , تسابق مسرحيوهُ لتجسيد فجائع الزمن العراقي بخيباتهِ وانتكاساتهِ التي تُشكِل مشهداً حياتياً يومياً مألوفاً , حينما تعرّض العراق لظرف استثنائي هوَ الأخطر في تاريخهِ الحديث بعد بروز خطر تنظيم داعش الإرهابي وتهديدهِ للوجود العراقي بكُل أنساقهِ وتأريخهِ , ولعلَ ثمة عروض مسرحية عراقية , وجدنا فيها عدة تمثلات لزمن الفجيعة العراقية عبرَ ما قدمهُ مُنتجو تلك العُروض التي تسابقت في تجسيد أنساق فجائع هذا الزمن الذي اُبتلينا بهِ , وفي هذهِ الدراسة , نستعرض ثلاثة عروض مسرحية عراقية قُدمت حديثاً تكاد تشترك في هذهِ الخصيصة: 
• عرض(عباءات وألعاب للموتى) تأليف : علي الخياط ،وأخراج :علي الشجيري, تمثيل( علي الشجيري /حسنين المُلا) , إنتاج رابطة المبدعين العراقيين في بابل .
أزعم أن هذا العرض قد التحف بفعل المغايرة على صعيد المعالجة الإخراجية لنص اعتمد على مسرحة اليومي الطافح على سطح الحياة العراقية ، باعتبار أن طائفة النتوءات السوداء( جرائم الإرهاب) هي المتسببة بهذا الموت المجاني اليومي باختلاف أساليب وطرق هذا الموت ، ذبحاً وتفجيراً وتفخيخاً ، ما جعل المقبرة تعج بالموتى ، وبالتالي فإن “علي الخياط” مؤلفاً عمد الى مزج اليومي بوصفه حالة مشهدية تعتمد الملفوظ الحواري ، مع الفلسفي بوصفه يناقش ماهية التقتيل المجاني ، مرتكزاً على عدة أدبية مكنته من أن يُجاري هذا اليومي بلغة اقتربت أكثر بصورها وشاعريتها من المتلقي الذي وجد نفسه أمام محنته التي لا تأبى أن تفارقه , فيما سعى “علي الشجيري” مخرجاً صانعاً للعرض ناحتاً نصه الأدبي ، الى إعادة تفكيك عرى النص وصياغتها في تشكيلات صورية جسدتها حركة المجموعة التي كانت علامة فارقة في جسد العرض ، في نسق إيقاعي منضبط تبشر بموهبة إخراجية جديدة استطاعت أن تقدم لنا وجبة جمالية تجسد في صورة عرض منضبط بأنساقه السينوگرافية والإخراجية ككل ، وبالتالي فإن “الشجيري” كان عارفاً بماهية أدواته الإخراجية المتوفرة لديه خصوصاً اذا ما علمنا أنها التجربة الإخراجية الأولى له ، فالايقاع محسوب ، والحركة محسوبة هي الأُخرى ومنضبطة , أما على صعيد الأداء التمثيلي فيمكن الاشادة بأداء “علي الشجيري” ممثلاً حينما قدم لنا شخصية ليست بذي نمطية رغم أنها مُستلة من الواقع اليومي الحياتي ، كما أن المخرج كان عارفاً حينما وضع المؤدي “حسنين المُلا” في شخصية تناسب قدراته الأدائية ، أما المجموعة فكانت بمثابة القلب في جسد العرض . عرض (عباءات وألعاب للموتى) .. وجبة جمالية دسمة وعلامة فارقة في مسيرة المسرح البابلي.
• عرض (انتظرتهم), تأليف: علي عبد النبي الزيدي , تمثيل وإخراج : ثائر هادي جبارة , إنتاج نادي المسرح في بابل بالتعاون مع نقابة فناني بابل. 
هي رحلة وجع عراقي ، أجاد “جبارة” خوض غمارها ، فقدم لنا عملاً مسرحياً اتصف بالضبط لناحية الإيقاع في الأداء التمثيلي ، وعمل حسن للمنظومة السمعية والبصرية المُشكلة للعرض ، ثمة مواطن مؤسلب بالكامل لسطوة المؤسسة السلطوية التي عمدت الى سحق إنسانيته بمخالب سطوتها التي اقتحمت بيته ، مدرسته، دكانه، احلامه ، وطنه .. مما وَلدَ خسارات متوالية ، فلا يملك هذا المواطن سوى انتظار عودة الأحبة ( انتظرتهم .. انتظرتهم …) . لقد تفوق ثائر جبارة  في هذا العرض على نفسه  حينما أجاد في تقديم شخصية المواطن المسلوب الإرادة ، وحضر الزيدي كاتباً ، اذ كان حضور النص طاغياً في العرض ككل ..
مبارك للثائر المسرحي ، ومبارك لبابل هذا العرض المسرحي المتميز .
• عرض (كوليرا) تأليف وإخراج : سعد هدابي , تمثيل(صلاح الربيعي/فاطمة جودت) , إنتاج مديرية النشاط المدرسي في الديوانية .
(ماكرةٌ هي الهزائم) , بهذهِ اللافتة الصادمة , ينفتح عرض (كوليرا) الذي جاءَ مُكملاً لذات التقديمية التي شهدتها تجارب “هدابي” الأخيرة , ونقصد تحديداً عرض “العباءة” حينما اتكأ المُخرج على خزينهِ المعرفي ( جلد تأثيرات الحروب) وهوَ بذا يُكمل عقد تجاربهِ التي تدور في فَلك هذهِ اليافطة (ماكرةٌ هي الهزائم) كنتاج مُعاش لما تتركهُ الحُروب على جسد الوطن الذي اُبتلي بفجائع الواحدة تلو الأُخرى , لكن مما يُحسب لـ”هدابي” وجناحي طاقمهِ المسرحي “صلاح الربيعي/فاطمة جودت” , أنهم تساوقوا معَ مُجمل الجهود المسرحية الثرة في مُدننا العراقية , والتي صرحت وبعلانية عن إزاحة واضحة لثنائية (المركز والهامش) , بدءاً من ” العباءة ” وصولاً الى ” كوليرا ” خصوصاً ونحنُ شهدنا حضوراً كثيفاً لعدد كبير من مسرحيي تلك المُدن في عُرس مسرحي عراقي قَلّ نظيرهُ , وكانَ للجُهد الأدائي لكِلا المؤديين ” صلاح و فاطمة” حضوراً تقشفياً لناحية مُجمل أداءاتهما الصوتية والجسدية , وأُريدَ لهذا الجُهد ملء الفراغات التي تركتها عُجالة التقانة الإخراجية لهدابي في علاج ” كوليرا”  , حينما تعكزت هذهِ التقانة على المُعطى ” السمعي ” , بالحضور الطاغي جداً للمنتج الإذاعي على حساب المُعطي الفرجوي , وبالتالي زادَ المُخرج من جُرعاتهِ الإذاعية السمعية لـ” كوليرا ” , وهذهِ الزيادة أزعم أنها خلخلت أنساق البناء العام للعرض كَكُل . تبقى (كوليرا) سعد هدابي , واحدة من الأعمال المسرحية العراقية التي نعتز بمُشاهدتها.
 
—————————————————-
المصدر : مجلة الفنون المسرحية – بشار عليوي –  المدى

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *