أسرار الرقابة المسرحية – (الجزء الثاني)بقلم : د. سيد علي إسماعيل

في يوليو 1978 تقدمت مديرية شباب الجيزة إلى الرقابة من أجل الحصول على الترخيص بعرض مسرحية (الذئب يهدد المدينة) لمدة يوم واحد، وهي من تأليف سعد الدين وهبة، ومن إخراج رأفت راجي؛ فكتب محسن مصيلحي تقريراً بالموافقة جاء فيه إنها مسرحية جيدة لا إسفاف ولا ابتذال بها، يلتزم فيها المؤلف بالآداب العامة، ويطرح فيها فكرة جيدة حول أهمية دور الصحافة في حياة الناس، وكيف أن خبراً صغيراً مفتعلاً وكاذباً على ربع عمود في صفحة الحوادث يستطيع أن يغير أشياء كثيرة في حياة الناس، حيث إن وجود صحفي واحد كاذب في صحيفة يتساوى بالضبط مع وجود ذئب يهدد المدينة. أما الرقيبة نجلاء الكاشف فرفضت النص؛ لأنه يتهم الصحافة باختلاق الأفكار والإشاعات، ويتهم الجماهير بالضعف النفسي وتصديق الإشاعات، ويتهم الجهات الرسمية بالجري وراء الحوادث المختلقة، ولهذه الأسباب أيضاً رفضت الرقيبة لواحظ عبد المقصود النص. وبالرغم من تضارب التقارير بين الرفض والقبول، لم يقم مدير الرقابة بتشكيل لجنة أخرى كما هو متبع، بل وافق على النص قائلاً: “هذه المسرحية تتضمن الدور الذي تقوم به الصحافة في حياة الناس، وهي لا تركز على الصحافة كلها وإنما تضرب مثلاً بإحدى الصحف، ولا مانع من الترخيص ليوم واحد فقط”! وهذه الموافقة غير المألوفة ربما مبررها أن العرض سيكون ليوم واحد؛ ولكن ماذا لو كان العرض مستمراً؟ من المؤكد أن المدير سيرفض العرض، هكذا يقول المنطق!! الغريب أن هذا الأمر حدث بالفعل بعد ثلاثة أشهر من هذه الحادثة، حيث تقدمت فرقة مجانين المسرح إلى الرقابة بالنص نفسه من أجل عرضه بصورة مستمرة، فكتب محسن مصيلحي تقريراً شبيهاً بتقريره الأول، وكتبت أيضاً نجلاء الكاشف تقريراً مطابقاً لتقريرها الأول، اختتمته قائلة: “أرى عدم الترخيص بهذه المسرحية التي سبق عدم موافقتي عليها للأسباب السالفة”! وهنا يكتب المدير تأشيرة يقول فيها: “سبق الترخيص بهذه المسرحية”!! أي أنها أصبحت مجازة رقابياً اعتماداً على الموافقة السابقة!! علماً بأن الموافقة السابقة كانت استثنائية لأن العرض ليوم واحد، وهذا الاستثناء أصبح قاعدة لعرض المسرحية بصورة مستمرة!! وأكبر دليل على ذلك أن فرقة بيت ثقافة بلبيس عرضتها في مهرجان مسرح الأقاليم للثقافة الجماهيرية عام 1979 من إخراج رشدي عسكر! والطريف أن الرقيبة نجلاء الكاشف كلما تأتي هذه المسرحية إلى الرقابة كانت تكتب تقريرها الأول وتؤكد على رفضها للأسباب التي ذكرتها أول مرة!! وظلت الرقيبة متمسكة برأيها طوال عشر سنوات، ومازال المدير يصرح بها طوال عشر سنوات حيث جعل الاستثناء قاعدة كما أوضحنا!! وفي عام 1988 تقدمت كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية بطلب التصريح بتمثيل هذه المسرحية ضمن مهرجان الأسر الطلابية، فكانت المفاجأة، وهي أن النص ليس به ثلاثة تقارير كما هو متبع، بل ولا يوجد تقريرين في حالات الاستثناء، بل وجدنا تقريراً واحداً من الرقيبة نجلاء الكاشف، فكانت المفاجأة المتمثلة في قولها في ختام تقريرها: “مسرحية تنتقد الصحافة غير الأمينة، التي تختلق الأفكار والإشاعات التي يصدقها ضعاف النفوس من الجماهير، ولا مانع من الترخيص بأداء هذا النص الذي سبق الترخيص به من قبل مراراً، وذلك دون ملاحظات”!! وكأن الرقيبة تعترف ضمنياً بأن سعد الدين وهبة أكبر من الرقابة والرقباء!!

مخالفات الكبار يتحملها الصغار!! (15)
في يوم 15/2/19655 كتب مدير الإدارة العامة للرقابة الفنية خطاباً إلى مدير إدارة اللوائح والرخص يطالبه فيه بتحرير محضر في النيابة ضد مدير مسرح 26 يوليو لأنه خالف القانون عندما لم يخطر الرقابة عن برنامجه الفني المعروض في هذا الوقت!! فقام مدير إدارة اللوائح بمخاطبة المراقب العام للمحال والملاهي لمعرفة تفاصيل الموضوع، فكانت المفاجأة بأن الرقابة ليس لديها ملف خاص بمسرح 26 يوليو!! وهنا انقلب السحر على الساحر، وبدلاً من توجيه المخالفة إلى المسرح ومديره، أصبحت المخالفة موجهة إلى الرقابة التي لا تعرف شيئاً عن مسرح يعرض مسرحيات لا تعلم عنها شيئاً!! وبالبحث اكتشفت الرقابة أن هذا المسرح تابع لوزارة الثقافة والإرشاد القومي، ورغم هذا الاكتشاف إلا أن المخالفة مازالت عالقة!! وبدأ البحث عن اسم مدير المسرح غير المعروف للجهات الرسمية، وعن اسم البرنامج الفني المعروض، الذي لا تعلم الرقابة عنه أي شيء! واستمر البحث عدة أيام من خلال تبادل المكاتبات الرسمية دون جدوى، فصدر الأمر بتحرير محضر رسمي بالمخالفة في النيابة، حيث إن القانون لا يعفي أي مخالف من المسئولية سواء كان من العاملين في القطاع الخاص أو العام – هكذا جاء في المكاتبات الرسمية – خصوصاً وأن الرقابة تهربت من المسئولية بفتح ملف جديد باسم مسرح 26 يوليو!! ودار البحث حول اسم مدير هذا المسرح من أجل تحرير محضر له في النيابة، وأسفر البحث عن اسم المدير وهو الأستاذ (سمير بديع)!! أما البرنامج الفني الذي تمّ عرضه دون علم الرقابة، فكان مسرحية (الحجر الداير) تأليف البرنس أبو الفتوح، وكذلك مسرحية (شروع في جواز) لسليمان نجيب! أما الفرقة التي قدمت العرضين فكانت فرقة المسرح العمالي العربي لمديرها عبد الوهاب ياسين. وبسبب هذه الحادثة تم إقصاء سمير بديع كمدير لمسرح 26 يوليو، وتعيين مدير جديد هو محمود عبد الحليم القلعاوي، الذي تعلم الدرس من سابقه، فسارع بإبلاغ الرقابة عن أول عرض سيعرض على مسرح 26 يوليو تحت إدارته، وهو إعادة العرض الشهير لمسرحية (مطرب العواطف) لمدة أسبوع واحد، بطولة: عقيلة راتب، ومحمد عوض، ومحمد رضا، وماجدة الخطيب، وميمي جمال، والسيد راضي، وجمال إسماعيل، وشوشو جميل!! وعلى الرغم من مرور 46 سنة على هذه الحادثة، إلا أنني اكتشفت أن الوزارة ضحت بمدير المسرح سمير بديع ككبش فداء لتغطي على مخالفتها هي في عدم وجود ملف لدى الرقابة لمسرح 26 يوليو، لأنها وضعت اسم هذا المسرح بدلاً من اسمه القديم (مسرح الأزبكية الصيفي)، دون إخطار الرقابة بهذا التغيير، وأيضاً لأنها بحثت عن مسرح لا تعلم عنه أي شيء، ولا تعلم اسم مديره، وأثبتت ذلك في الأوراق الرسمية، وكان من الصعب تغيير الموقف، أو إخفاء المستندات، أو أن تعترف بأنها المدانة، وأن الخطأ خطؤها، فلم تجد مفراً من إيقاع المسئولية على فرد واحد؛ لأن ظلم فرد واحد أهون بكثير من الاعتراف بأن كبار مسئولي الوزارة ارتكبوا مخالفات إدارية وقانونية .. وما أكثر مخالفات المسئولين الكبار، وما أكثر سحق الصغار من قبل الكبار!!

دعوى جنائية ضد أحمد عبد الحليم وآخرين!! (16)
في أوائل عام 19722 ألف عبد الله الطوخي مسرحيته الشهيرة (المشخصاتية)، وتم عرضها على مسرح 26 يوليو بطولة أحمد عبد الحليم، وفاروق يوسف، ومحمد فريد، والمرسي أبو العباس وآخرين. وفي إحدى ليالي العرض حضر قدري محمود أحمد إلى المسرح لرؤية العرض بوصفه مفتش الرقابة على المصنفات الفنية، ومأمور الضبط القضائي للتحقق من تنفيذ أحكام القانون فيما يتعلق بالالتزام بالنص الذي صرحت به الرقابة. وبعد مشاهدة العرض كتب المفتش تقريراً سرياً، أبان فيه مخالفات قانونية تمثلت في قيام بعض الممثلين بإلقاء ما قررت الرقابة حذفه من النص المصرح به، وهي عبارات خارجة على الآداب العامة وأمن الدولة العليا، ومنها: قول الممثل فاروق يوسف (وطبعاً بعملته هج من البلد وهرب .. قلت مش ضروري أشوف أي كلب والبلد اللي كلها كلاب مطرح ما تمشي تتعثر في كلب، والليلة دي ولا كلب موجود)، كذلك قوله (إن كان على الألواح والبراميل خد عندك البلد مليانة). أما الممثل محمد فريد فقال (آه قاعدين تعملوا لي فرقة تمثيل وسايبين البلد للحرامية يسرحوا فيها .. يا ناس حرام). أما الممثل المرسي أبو العباس فقال (آه خرج الإنجليز ودخل اليهود). أما الممثل أحمد عبد الحليم فقال (اليهود ما دخلوش) فرد عليه الممثل المرسي أبو العباس قائلاً (سامعين يا ناس اليهود دخلوا). أما مدير المسرح فيعد مخالفاً للقانون لأنه سمح بإلقاء ما قررت الرقابة حذفه، بوصفه مديراً للمكان، وبالتالي فجميعهم يقعون تحت طائلة العقاب المنصوص عليه في القانون. هذا التقرير أحدث بلبلة داخل الرقابة، وانقسم المسئولون تجاهه، فمنهم من طالب بتحرير محضر رسمي للممثلين أسوة بالمحضر الذي تم لممثلي مسرح الجمهورية في حادثة مشابهة سابقة! والبعض الآخر قال يجب أن نتحقق من أن هذه العبارات تم منعها في تصريح الرقابة حتى لا تقع الرقابة في تناقض! وهذا الاحتمال كان الحقيقة الخفية؛ لأن الرقابة لم تنتبه إلى هذه العبارات في النص وصرحت بها، وبذلك فهي المدان الحقيقي في الأمر!! وحتى تحمي الرقابة مسئوليها، قام البعض بالالتفاف على الأمر، بحيث تقع المسئولية على الممثلين، والدليل على ذلك وجود تأشيرة أسفل التقرير السابق جاء فيها الآتي: ” يعرض الأمر أولاً على السيدة المدير العام لمناقشتها فيما صُرح به من ألفاظ سباب، ومقارنتها بالخروج على العرض حيث أرى أن الخروج في حدود ما صرحت به الرقابة من ألفاظ سباب وشتائم .. فإما أن تحذف هذه الألفاظ حتى يمكن محاسبة المسرح أو يُعفى من المحاسبة “. وهذا يعني أن الرقابة صرحت بهذه العبارات، ولكنها مضطرة لتغيير تقاريرها حماية لموظفيها، وللأسف هذا ما حدث!! وربما يتساءل القارئ: لماذا لم يعترض الممثلين أو مدير المسرح على ذلك؟ الإجابة: جميع التقارير والأرواق الخاصة بالرقابة سرية، ولا يطلع عليها أحد!! وبالتالي يسهل تغييرها والتلاعب فيها؛ لأنها تقارير سرية محمية بقوة قانون الظلم والتعسف!! وهكذا انتهى الموضوع بوثيقة مؤرخة في 22/3/1972 بها الآتي: الأستاذ وكيل نيابة الموسكي .. تحية طيبة، نتشرف بأن نرفق طي هذا المحضر المحرر ضد كل من: أحمد عبد الحليم، فاروق يوسف، محمد فريد، المرسي أبو العباس. الرجاء التفضل بتحريك الدعوى الجنائية ضدهم.

الأميرة تنتظر .. عرض بلا ملاحظات رقابية (17)
نشر صلاح عبد الصبور مسرحيته (الأميرة تنتظر) في مجلة المسرح 19699، ومن ثم تقدمت فرقة مسرح الجيب إلى الرقابة من أجل الترخيص بتمثيلها على مسرح 26 يوليو. وبالفعل نالت الفرقة الترخيص مشروطاً بحذف عبارتين فقط، هما (اخلع سراويل البدر) و(امطرني في بطني طفلاً)!! وأثناء قيام المفتش الرقابي فاروق سالم بمتابعة عرض المسرحية، لاحظ بعض الموانع فكتب تقريراً قال فيه: ” المسرحية ظاهرها الجنس، وفي باطنها سياسة حسب فهمي. وهي تتعرض للفترة من قيام الثورة حتى وفاة الرئيس الراحل، والخوف أن بعض الجمهور الذي حضر ومعظمه من الطلبة أخذ العبارات الجنسية التي امتلأت بها المسرحية على معناها الظاهر. كما أن الممثلين لم يلتزموا بما قررت الرقابة حذفه “. هذا التقرير به تحامل كبير، وكان الغرض منه إيقاف عرض المسرحية! حيث وجه المفتش الرقابي طعنتين قاتلتين لأي نص أو عرض مسرحي (الجنس والسياسة)، وأية طعنة منهما كفيلة بموت المسرحية وإيقافها! وربما هذا ما شعر به المسئولون، فتم تكليف المفتش حمدي سرور بمشاهدة العرض وكتابة تقرير عنه. فشاهد حمدي العرض بالفعل، وكتب تقريراً بتاريخ 7/11/1971، كان نموذجاً فريداً غير مسبوق في تاريخ الرقابة؛ حيث بدأه بتمهيد نقدي رائع، قال فيه: ” يعرض مسرح الجيب المسرحية الشعرية (الأميرة تنتظر) وهي من روائع أشعار صلاح عبد الصبور، صاغها في قالب ممتع ممزوجاً بالخيال الأوبرالي”. وحتى يكون المفتش مقنعاً بهذا التمهيد، أردفه بمسوغات فنية قوية، قائلاً: ” وتكاتفت جهود مخرج المسرحية الأستاذ الكبير نبيل الألفي والفنان الكبير صلاح طاهر الذي أضفى بلمساته جواً أسطورياً رائعاً، والموسيقى شعبان أبو السعد الذي طوع ألحانه للمعاني التي أرادها الشاعر المؤلف، ومفخرة الباليه مايا سليم التي بذلت جهداً مشكوراً في تصميم رقصات المجموعة وتحريكها على المسرح في دقة وفن”. هكذا استمال الرقيب المفتش أي مسئول يقرأ هذه المسوغات، ويجعله يتعاطف مع العرض، بل ويضمن صدق ما سيبديه من مبررات لتمرير الموانع الرقابية، التي جاءت في تقرير زميله السابق، وبناءً على ذلك أكمل حمدي سرور تقريره قائلاً: ” وطبيعي أن الممثلين قد أدوا أدوارهم باتقان، ولم يخرجوا على النص الذي كتبه صلاح عبد الصبور؛ إلا أن الرقابة كانت قد رأت حذف شطرتين في صفحتي 32 و73 ولم تستدع المؤلف ليستبدل هذه الكلمات التي تريد حذفها “. وهنا نلاحظ أن الرقيب لمس نقطة قانونية قوية، حيث إنه لم يجد ضمن الوثائق الرقابية تعهداً مكتوباً من المؤلف بموافقته على الحذف! وهذا المبدأ القانوني استند عليه الرقيب في تقريره، وعضده بأمور فنية وقانونية كثيرة، وكأنها سهام أطلقها الرقيب في تقريره ليجهز على أية محاولة رقابية لمنع العرض، قائلاً: ” وبديهي أن النص الشعري لا يمكن حذف شطرة منه والاكتفاء بذلك! كما وأن الكلمات المراد حذفها لا تحتوي على خروج فاضح على الآداب العامة؛ بل إن الكلمات في معظم النص تتساوى من حيث ملائمتها للآداب وتتوائم مع مجرى الأحداث، ولم يكن هناك مبرر لحذف كلمة واحدة من النص لأنه شعري لا يحذف منه شطرة أو كلمة بلا استبدال لها بنفس المستوى الفني، كذلك الممثلين لا يمكن لهم إسكات الكلمة بلا تعديل في الوزن حتى يستقيم النص. ولهذا أرى رفع الحظر على العبارتين المحذوفتين، وذلك حتى يكون موقف الفرقة سليماً من حيث الالتزام بالترخيص”. وتعد مطالبة الرقيب برفع الحظر الرقابي من المطالبات النادرة التي وجدتها في وثائق الرقابة، بل وتعد من أجرأ المواقف المحسوبة للرقابة في تلك الفترة! الغريب أن هذه المطالبة تحققت بالفعل! ففي يوم 13/11/1971 كتبت المديرة السيدة اعتدال ممتاز خطاباً رسمياً إلى مديرة إدارة الرقابة على المسرحيات، قالت فيه: ” فقد تقرر رفع الحظر على العبارات المحذوفة من المسرحية الشعرية (الأميرة تنتظر) والسماح للفرقة بالعرض بلا ملاحظات رقابية، رجاء التكرم بإخطار مسرح الجيب بذلك “.

المؤلف ضحى بنصه رافضاً الإذعان (18)
تقدمت الثقافة الجماهيرية عام 19722 إلى الرقابة للترخيص بتمثيل مسرحية (أبو الفحول) تأليف عزت النصيري، فكتبت الرقيبة فاطمة حسين تقريراً برفض المسرحية، أبانت فيه أن المؤلف هدفه الدعوة لتنظيم النسل؛ ولكنه انحرف عنه متخذاً من المسرحية ستاراً لعرض بعض العيوب السائدة في المجتمع والتي لا صلة لها بتنظيم النسل، وجعل هذه العيوب شاملة لجميع طبقات الشعب حتى رجال الدين والقضاء، كذلك وصف الشعب بطريق غير مباشر بأنه شعب متكاسل بليد لا يعرف سوى كل ما هو نصب واحتيال وتزييف وخداع، ولا هم له سوى شرب المخدرات والإنجاب. كذلك كتب الرقيب فؤاد خطاب تقريراً برفض المسرحية؛ لأنها في شكلها ومضمونها العام تسخر من الدولة ومن شعبها إذ نراها وهي تصور شعبنا صوراً لا يصح عرضها على الناس لأن فيها ظلم وافتراء على أخلاقنا وأخلاق مجتمعنا وخصوصاً وأن المسرحية تؤكد جهل شعبنا سواء بمصالحه الداخلية أو الخارجية. أما الرقيب عمارة نجيب فكتب تقريراً طالب فيه إرجاء الترخيص لأن المؤلف قصد إلى عملية التصحيح في آخر المسرحية، وبالتالي تكون الفترة السابقة هي الفترة ما قبل التصحيح، وقد أسقط المؤلف كل محاسنها، وتناول سيئاتها فقط. أما الرقيب محروس الجارحي فرفض النص لأنه ساذج ومسف! وفي يوم 19/6/1972 كتبت الرقيبة ثريا الجندي تقريراً بالموافقة على الترخيص، قالت فيه: ” تنتمي هذه المسرحية إلى ما يسمى بالمسرح السياسي، وهو مسرح لا يعتمد على حدث واحد متطور أو شخصية محورية نامية، إنما الشخصيات هنا شخصيات نموذجية مسطحة. الشخصية الخيرة تبدأ خيرة وتنتهي على نفس الصورة، وكذلك الشريرة والمنافقة كلها صورة واحدة ووجه واحد وتكاد تخلو من الأبعاد المعروفة للشخصية الدرامية. والهدف الأساسي من هذه المسرحية هي أن الشعب يعيش في حالة سيئة من الفقر والجهل بسبب معتقد خاطئ هو عدم الإيمان بتحديد النسل وأن الأمل الوحيد لهذا الشعب هو الحاكم الجديد الذي تولى الحكم بعد دراسة كل هذه الأوضاع وبدأ فوراً في إصلاحها فهو البارقة الوحيدة التي ينتظر منها الشعب الكثير لكي يتخلص من كل تلك العيوب والمعاناة التي يعيش فيها”. كذلك وافق الرقيب فاروق البهي على الترخيص قائلاً: ” مما لاشك فيه أن هذه المسرحية رمزية ولو أنها تحرك الأحداث فيها بمدينة أسطورية، وواضح أيضاً أن زمن هذه المسرحية هو قبل 15 مايو 1971 أى قبل ثورة التصحيح، وقد اقتضى استعمال الرمزية فيها لتناولها موضوعاً حدث في الزمن المعاصر. وتبين من وقوع أحداثها قبيل ثورة التصحيح نظراً لذكر شعار الشرطة (الشرطة فى خدمة الشرطة) المقلوب بدلاً من خدمة الشعب وأيضاً لعدم سيادة القانون في هذه الآونة، ثم ما جاء بختام المسرحية من نشر العدالة بعد هذه الثورة المصححة فى 15 مايو 1971 وعدم تسيس القانون وفق الأهواء والأغراض والسلطان”. وأمام هذا التناقض الرقابي بين الرقباء، طالبت مديرة الرقابة اعتدال ممتاز عدة تعديلات في النص، وحضر بالفعل المؤلف عزت النصيري يوم 4/7/1972، ووقع على تقرير المديرة، وكتب بخط يده هذه العبارة (اطلعت على الملاحظات وسأقدم التعديل)! ومن المؤكد أن المؤلف لم يقم بالتعديل كما ذكر، وربما راجع نفسه رافضاً الإذعان لسلطة الرقابة، والدليل على ذلك عدم وجود أية إشارة عن هذا النص في سجلات الرقابة، أو في الحركة الثقافية المسرحية في مصر في تلك الفترة أو بعدها، وكُتب على النص الرفض من قبل الرقابة، وضاعت المعاني الوطنية الجميلة، التي بثها المؤلف في هذا النص المتميز.

الرقابة .. تطارد وتكبت وتتوجس (19)
أرسل التفتيش الفني التابع للرقابة على المصنفات الفنية الأستاذ أحمد أبو الفتوح بوصفه مفتشاً فنياً إلى مسرح الطليعة، فكتب تقريراً موجزاً يوم 8/1/1981 أبان فيه أن المسرح يعرض مسرحية (الناس في طيبة) من تأليف الدكتور عبد العزيز حمودة، ومن إخراج السيد طليب، وأن العرض ليس به أية مخالفات. وبعد أسبوعين قام المفتش عبد العزيز رمضان بالتفتيش الفني على هذا العرض، وكتب تقريراً أوضح فيه أن العرض يقوم على أسطورة إيزيس وأوزوريس، ولا توجد به مخالفات. وبعد خمسة أيام وتحديداً يوم 30/1/1981 كتب مدير التفتيش تأشيرة غريبة أسفل التقرير السابق، قال فيها: ” قمت بمشاهدة المسرحية وقد تبين التزام جميع الممثلين بالنص المرخص التزاماً كاملاً بما فيهم الممثل (جميل برسوم) في دور ست، ولم يكن هناك أي شك من قريب أو بعيد قيامه أو محاولته القيام بتقليد أي شخصية عامة أو الإسقاط عليها “. وهذه التأشيرة تؤكد أن الرقابة تلقت بلاغاً من مسئول أو من شخصية سياسية أو من أمن الدولة أو من أية جهة سيادية، يفيد بلاغها أن الممثلين لم يلتزموا بالنص المُرخص، وأن الممثل جميل برسوم يُقلد شخصية عامة، ربما رئيس الدولة أو أحد الوزراء، وهذا البلاغ – رغم عدم وجوده ضمن الوثائق الرقابية – إلا أن تأشيرة المدير تدل على وجوده، ولو بصورة شفاهية! الدليل الأكبر على ذلك أن المفتش الفني محمد ناجي قام بمشاهدة العرض يوم 26/2/1981، وكتبت تقريراً أبان فيه أن محور العرض يدور حول أن أهل مصر هم السبب فيما يحدث لهم، وأن المسرحية تحاول إدانة صفة السلبية، ولكنها لا تعطي انطباعاً مركزاً إلا عن إدانة أهل مصر، وينهي المفتش تقريره بالآتي: ” تضمن العرض المسرحي بعض العبارات التي يُنكر أسلوب أدائها مثل عبارة (السيد/ رئيس الدولة)، وعبارة (المجلس الموقر) التي وردت على لسان الملك ست في العرض، يشاهده معظم الممثلين الناشئين ويساهم في توجيه أفكارهم وربطها بأفكار ليست حقيقية عن شعب مصر “. وهذا التقرير يبين لنا أن الشكوى، التي قُدمت ضد العرض وبالأخص ضد الممثل جميل برسوم، كانت من قبل مسئول سياسي أو من قبل أمن الدولة، لأن الممثل كان يُقلد رئيس الدولة أو رئيس مجلس الشعب المرموز له بعبارة (المجلس الموقر). الجميل في هذا الموضوع هو رأي مدير عام الرقابة .. ماذا كان موقفه؟! موقفه كان أكثر من رائع! فقط أشر على تقرير محمد ناجي السابق بقوله: (عبارة المجلس الموقر واردة بالنص، وهي جملة شائعة في الكثير من المناسبات، ولست أرى مطاردة كل صاحب رأي، وكبت كل حرية، والتوجس من أي بادرة، وأرى الحفظ)! ومن الملاحظ على هذه التأشيرة أن صاحبها تجنب ذكر عبارة (رئيس الدولة)، لأنها عبارة حساسة حتى يفوت الفرصة على كل من يرغب في إيقاف عرض مسرحية (الناس في طيبة)، كما أنه أعطى درساً قاسياً لجميع الرقباء، ولخص عملهم الرقابي التعسفي في كلمات موجزة، كانت بمثابة طلقات رصاص قاتلة لكل متعسف وجاهل بأصول الفن وحرية التعبير! فهذا المدير المقدام حدد عمل الرقابة بأنها جهة حكومية تُطارد كل صاحب رأي، وتكبت كل حرية، وتتوجس من أية بادرة!!

مراكز القوى بين الكابوس والوزة (الأخيرة)
تقدم المسرح القومي يوم 16/3/1983 بطلب للرقابة، للترخيص له بتمثيل مسرحية (الكابوس) تأليف جمال عبد المقصود. وهي مسرحية تدور حول (سعد) الموظف الحريص كل الحرص على عدم الخوض في أمور السياسة، وشئون الدولة خوفاً من مراكز القوى. وفي ذات يوم يحكي لزملائه حلماً جاءه في المنام، بأنه أكل وزّة. وفي أثناء الحديث، يسمعه اثنان من الموظفين، وهما من جواسيس مراكز القوى، فيكتبا وقائع الحلم في تقريرهما. وفي اليوم نفسه يحضر أحد الضباط بمصاحبة مجموعة من المخبرين، للقبض على (سعد)، وفي المعتقل يتعرف سعد على المتهمين السياسيين، الذي يشترك معهم في أمر واحد وهو عدم معرفتهم بالتهم الموجهة إليهم. وفي المحكمة يطلب وكيل النيابة أقصى عقوبة لسعد لأنه أراد التهام نظام الحكم، بدليل أكله للوزة؛ ولكن القاضي لم يقتنع بذلك فيحكم ببراءة سعد، الذى يفاجئ بأن أكثر المساجين في القفص معه، قد حصلوا على البراءة نفسها منذ سنوات، ولكنهم إلى هذه اللحظة داخل المعتقلات، أي أن البراءة في ظل مراكز القوى هي السجن المؤبد!! هذا النص رفضه الرقيب كمال سعد طه؛ لأنه يشير إلى مراكز القوى الموجودة في مصر وكبت الحريات وزج المواطنين الأبرياء في السجون بدون حق، ورغم ذلك لم يشر المؤلف في نهاية نصه إلى التخلص من مراكز القوى، وهذا يدل على استمرار وجود مراكز القوى حتى الآن! وكتب رقيب آخر تقريراً طالب فيه بتعديلات في النص. وفي يوم 29/3/1983 كتب مدير الرقابة المحضر الآتى: ” حضر الأستاذ جمال عبد المقصود مؤلف مسرحية (الكابوس) الذي تقدم بها المسرح القومي للترخيص بها رقابياً وقد تقدم ببعض الملاحظات في بعض الصفحات لهذه المسرحية وقد تجاوبت هذه الملاحظات مع الملاحظات التي أشار بها بعض الرقباء وقد أضيفت هذه الملاحظات إلى نسخ المسرحية ووقع الأستاذ المؤلف على هذا المحضر”. وفى يوم 31/3/1983 كتب الرقيب فتحي مصطفى عبد الرحيم تقريراً بالرفض أيضاً كان مفاجأة غير متوقعة – بعد أن قام المؤلف بالتعديلات المطلوبة – قال فيه : ” أرى عدم الموافقة على عرض هذه المسرحية لما فيها من تهكم على الجهات المسئولة وما يلفقونه من تهم للأبرياء والزج بهم داخل أسوار السجون والمعتقلات بدون ذنب جنوه. وما يلاقيه هؤلاء المساجين في السجون والمعتقلات من تعذيب وإرهاب واضطهاد”. والغريب أن الرقابة استندت إلى هذا التقرير وبنت عليه رفضها، ولم تلتفت إلى التعديلات التي قام بها المؤلف بناء على تقارير رقابائها السابقين! والحقيقة أن الرقابة رفضت هذه المسرحية لما بها من حقائق تمس الواقع المصري وقت كتابتها، وهذا الواقع تمثل في علاقة المثقف أو المفكر بنظام الدولة. وهذه العلاقة صورها المؤلف بصورة تهكمية في مسرحيته، ناهيك عن حديث المسرحية عن الظروف الاقتصادية كغلاء الأسعار وتناقضها مع ما تنشره الصحف اليومية من أسعار متدنية، وأيضاً الظروف الاجتماعية كزيادة المرتبات في الظاهر ونقصها في الحقيقة بسبب الشريحة الضريبية … إلخ! الطريف في الأمر أن هذه المسرحية المرفوضة رقابياً باسم الكابوس، نشرها المؤلف باسم (الرجل الذي أكل وزة)، فتم التصريح بها رقابياً، وتم تمثيلها مئات المرات!! أكررها مرة أخرى (مئات المرات) .. دون أن يحذف منها المؤلف كلمة واحدة!!

 المصدر/ محمد سامي موقع الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *