“أثر سيرج” تجريب مسرحي يملأ الفراغ بالفن / أبو بكر العيادي#فرنسا

أحداث المسرحية تدور في شقة رجل ثلاثيني، اعتاد استقبال أصدقائه كلّ أحد، ليقدّم أمامهم عروضه الموجزة.

“أثر سيرج” هي آخر عرض للفرنسي فيليب كين في المركز الدرامي الوطني بنانتير أمانديي الذي أداره طيلة ستّ سنوات. وهي مسرحية تتميز، كسائر أعماله الأخرى، بالطرافة والشاعريّة في تناول تفاصيل المعيش اليومي مثل عالم طبيعيات.

يعتبر فيليب كين، الذي يحتفل هذه السنة بعامه الخمسين، من المسرحيين الذين أضافوا بصمة خاصة إلى المشهد المسرحي الفرنسي، فهو لا يني يسلط على علاقة الإنسان بالطبيعة نظرة مجهرية بحثا عن التفاصيل الصغرى، كما كان يفعل صغيرا بالحشرات التي يجمعها في تشكيلات فريدة.

ذلك أن تصوّره للسينوغرافيا له صلة بالنظام البيئي، كما في أعماله “أُكال الأجنحة” و”تجارب” و”حسب الطبيعة” و”كآبة التنانين” و”نادي المستنقع”، و”أثر سيرج” التي يودّع بها روّاد المركز الدرامي الوطني بنانتير أمانديي في الضاحية الغربية للعاصمة الفرنسة باريس، الذي يديره منذ 2014.

وكان لتجربته هذه من الطرافة ما أكسبه حضورا متميّزا خارج حدود فرنسا، حيث ساهم في بعض المحافل الأوروبية كمسرح الغرفة في ميونخ، ومهرجان الفنون ببروكسل. وبعد اثني عشر عاما من ظهوره أول مرة في مهرجان أفينيون، عمّق مجراه، دون أن يهجر هوسه بطابعه الفني المخصوص، فقد استطاع في الأعوام الأخيرة أن ينجز أعمالا متفردة جلبت له الاحترام.

هذا العمل أعدّه كين خصيصا لممثله الأثير غايتان فورش، ولكنه ليس من نوع الـ”وان مان شو” بل هو عرض بسيط في ظاهره عميق في مراميه، لأن كين أراده تحيّة إلى كل من حاولوا ويحاولون التعبير عن مطامحهم الفنية، في بيوتهم، رفقة أقاربهم أو أصدقائهم، باقتراح أشياء طريفة قد تنجح فتنال الإعجاب، وقد تفشل فتثير الضحك البريء، والسخرية المرحة التي يتبادلها الأصدقاء عادة في ما بينهم.

فالمحاولات الفنية هنا لا تتجاوز كل واحدة منها ثلاث دقائق، تتجلى فيها براعة المخرج والممثل، حيث يمرّ المتفرج من دهشة إلى أخرى على أنغام ليد زيبلّين وفاغنر، ولا يملك إلّا الإعجاب بالكيفية التي يحوّل الرجلان فيها رتابة الحياة اليومية إلى لحظات مسرحية مثيرة، تمتزج فيها الشاعرية بالسموق. فكين الذي تسكنه رغبة تقديم عبثية السلوك الإنساني، يجعل من فضائه الركحي مخبرا حيّا، يدعو من خلاله جمهوره إلى تأمل الفرد في إهابه الطبيعي وعاداته اليومية البسيطة.

تدور “أحداث” هذا العمل المسرحي في شقة رجل في الثلاثين من عمره تقريبا يدعى سيرج، اعتاد أن يستقبل أصدقاءه كلّ أحد، ليقدّم أمامهم عروضا تتراوح مددها بين دقيقة وثلاث دقائق. هذه العروض الوجيزة، التي تقع بين ممارسة الهواية والفن التقليلي التجريبي، يقدّمها سيرج في ديكور شقته احتفاء بالابتكار الخالص والفرح الهادئ بمشاركة أصحابه ابتكاراته.

وهي ابتكارات تتجدّد كل أسبوع، عن طريق رسوم لامعة باستعمال الليزر، وتجريب تأثير موسيقى معاصرة في المستمعين، وحتى تموّج أضواء سيارة. بل قد نشهد أحيانا ظهور سيارة على الخشبة، أو رائد فضاء يطلّ من فرجة الشقة البلورية.

 

عرض زائل يولّد فرادته من لا شيء

على موكيت الصالون، حيث طاولة صولجان، وتلفزيون في الركن، وأكياس بطاطا مقلية وأشياء أخرى صغيرة مبعثرة هنا وهناك، يشكّل سيرج فضاء تتجلى فيه تفاصيل من الحياة اليومية، منظمة أو عفوية أو مباغتة، مثلما تتجلى فيه دعوة إلى ملء الفراغ بأنشطة يمكن أن يبتكرها المرء بمفرده، داخل بيته، لمتعته الخاصة، أو لإبهار أصحابه.

وما يعرضه كشريحة حياتية لها وقع خرافة عن الفراغ في معيشنا اليومي، لكونها تقدَّم كألعاب طفولية مسلية، فيما هي تعالج قضية جادة: كيف يؤثّث المرء حياته ويقيم في العالم؟ والمخرج يبدع في إضفاء نوع من الضبابية بين الخشبة والحياة الحقيقية في البيت، بين الزمن التخييلي والزمن الواقعي، ما يجعل المتفرج يحس أنه إنما يشهد لقاء بين بعض الأصدقاء ينتهي بجلسة حميمة يتناولون فيها مشروباتهم.

والمسرحية تجيب عن السؤال أعلاه بطريقة قد تبدو بسيطة وحتى منتقدة للخلق المسرحي، ولكنها في الواقع تقيم الدليل على أهمية عملية الخلق، فالرقص والتنقل والجلوس في وضعية ثابتة للتأمّل أو الإنصات هي أيضا من مكوّنات الكوريغرافيا المعاصرة، التي يتبناها كين في طريقة حشد الطاقات المختلفة لدى فرد جالس وآخر متحرّك ناشط فاعل.

“أثر سيرج” تلخص في حد ذاتها مقاربة كين المسرحية، ففيها يستعرض مجموعات بشرية تتجاوزها مشاكل العالم، فيجتمعون لإيجاد حلول على مستواهم، بسيطة وشاعرية وحميمة. وقد حازت الإعجاب حيثما عرضت، في أكثر من ثلاثين بلدا، رغم أن العجيب فيها يولد من لا شيء، والنقد المشوب أحيانا ببعض الكآبة يساهم في إضفاء جدية يخالها المتفرج غائبة لأول وهلة، ولكن حين يتعمّق في ما يعرض عليه يدرك أنها كامنة في مسار العمل كله، حتى في المواقف الهزلية.

يقول كين عن بطله “سيرج هو شخص حرّ، يبدع دون أن يقدّم طلب تمويل أو يستجيب لمعايير إنتاج. يمنح نفسه حق الحلم وابتكار أشيائه الصغرى، في بيته، وأمام أصحابه. يمكن القول إنّ له جانبا طفوليا، فعروضه عارضة، عابرة، زائلة، لا يراد منها في النهاية غير لفت الانتباه لما حولنا، لبيئتنا التي نحيا فيها جميعا”.

 

رتابة الحياة اليومية تتحوّل إلى لحظات مسرحية مثيرةالمصدر / العرب
https://alarab.co.uk/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش