أبو الفنون وذوي الاحتياجات الخاصّة تجربة المسرح الجهوي سيدي بلعباس ” غرفة الأصدقاء ” الرائدة عربيا ووطنيا مع مكفوفي البصر أوديب ….ثــاني التجارب المسرحية قــريــبــا

العالم بأسره يعرف نسبا متفاوتة تخص فئة ذوي الاحتياجات الخاصة ، وتلكم الفئة تختلف عن الفئة الطبيعية من البشر من حيث القدرات العقلية ، الجسدية ، النفسية ، التعليمية واللغوية ، ولما تواجدت هته الفئة كان لابدّ من انتهاج سبل متينة ومدروسة القواعد للتربية والتعليم ، مراعاة للفروق الفردية الخاصة بكل إعاقة والاختلافات الطبيعية سواء كانت حركية ، سمعية ، لغوية ، بصرية ،عقلية أو غيرها حيث لابدّ لتلكم التربية أن تكون ذات خاصيّة وميزة تفرق عن التربية العادية من حيث الكفاءة والقدرة على التكيف مع تلكم الفئات ومدى تحصيل الوسائل المادية والمعنوية للتواصل مع ذوي الاحتياجات الخاصة سواء على مستوى الأسر أو على مستوى المؤسسات التعليمية العادية أو المراكز المختصة باحتواء تلكم الشريحة من البشر مع التركيز على التشخيص السليم للحالات .

فئة ذوي الاحتياجات الخاصة لها كامل الصلاحيات وذات الحقوق مع أحقيّتها في العيش الكريم ، التعليم القويم والإبداع ، والقدر الكافي من الرعاية والتأهيل ، حتى نحسّسها بقيمتها ومكانتها بالمجتمع ، مع التركيز على مراعاة البعد النفسي في التعامل والتوجيه لاستغلال كل الطاقات والجهود نحو سياسة رشيدة تُعْنى بذوي الاحتياجات الخاصة .

ومن بين ملامح الرعاية بفئة ذوي الاحتياجات الخاصة نُلفي الفن كأبرز الملامح التي من شأنها العمل على إدماج الفرد المعاق مهما تباينت إعاقته ، وحمله على التعبير الفني لتعرية انفعالاته وصراعاته ، وكشف النقاب عن آماله وطموحاته ، حتى يحقّق التأثير والتأثر ويخلق نوعا من الاتزان الداخلي والانصهار مع الآخر بما يقدّمه من إبداع فنيّ ، كما أنها فرصة هامّة لإشباع رغباته ومكنوناته ، هنا تكمن مدى أهميّة الممارسات الفنية والتركيز على فتح مجالات الإبداع لصالح تلكم الشريحة حتى تثبت أحقيتها ووجودها، فحملها على الإبداع وإشراكها في الفعل الفني والثقافي بشكل مدروس ومعمّق من شأنه أن يعزّز ثقتهم بأنفسهم ، ويحملهم على الإدراك والإحساس الايجابيين مع تنمية القدرات وتفعيل الطاقات الكامنة داخل كل معاق باختلاف إعاقته .

وإن فتحنا مجال الإبداع في الفن الرابع ، وباعتبار أسمى أهداف المسرح الانفتاح على الآخر وتوطيد العلاقة بالمجتمع ، فان من أولى اهتماماته العناية بشريحة ذوي الاحتياجات الخاصة والتفكير الجديّ في إشراكهم في الفعل المسرحي ، وعلى مستوى إدارة المسرح الجهوي لسيدي بلعباس / الجزائر ودونما الحديث عن كمّ العروض التي كانت توزع على مستوى المراكز التي تعنى بهته الفئة وبعض المراكز الخاصة لإعادة التربية وعلى مستوى دور الشباب المتفرقة عبر تراب الولاية ، جاءت أولى المبادرات الفعليّة مع فئة مكفوفي البصر ، أين كان التفكير جديّا في رفع الستار عن عرض مسرحي تصنع فرجته تلكم الفئة من ذوي الاحتياجات ضمن معايير ومقاييس المسرح لتقديم عرض مسرحي الأول من نوعه عربيا والأول على مستوى القطر الجزائري ، أين كان الاتفاق بين السيد ” أحسن عسوس ” مدير المسرح والمخرج ” الصادق كبير” ابن الجزائر المقيم بألمانيا حول دراسة موضوع تقديم عرض مسرحي من أداء ذوي الاحتياجات الخاصة وتم اختيار مكفوفي البصر كعيّنة ، لترفع التحدّي وتخوض غمار التجربة سنة 2012 التي خالفت العُرف بالمسرح وكسرت احدى مقاييسه على أن يقام العرض في الظلام الدامس وتنوب فيه الكلمة وانفعالاتها التي يجب أن يستعشرها المتلقي عن الرؤية المجرّدة للعرض .

كانت ” غرفة الأصدقاء” حصاد التجربة المسرحية الرائدة عربيا ووطنيا ، كما أنها عصارة الإبداع من تقديم الفنان ” الصادق كبير ” وزوجته الألمانية ” صابين كبير” أين كان لزاما على المتفرج الانصهار في عالم المكفوفين وأن ينوب السمع والانفعال عن كل شئ ، في محاولة ربط الحبل السري بين ذوي الاحتياجات الخاصة والجمهور الذي عايش التجربة حينها بإحساس المكفوف ومشاركة عالمه وفضائه وحتى معايشة فحوى انفعالاته وإدراكه للعالم الذي يحاصره منذ ولادته ، العرض الذي قدّم آنذاك ومرات عدّة في الظلام الدامس والمفارقة كانت في كل العروض أن يلامس الكفيف يد الانسان العادي ويقوده الى كرسيّه ليفرض عليه بشكل أو بآخر الالتفات الى عالمه أقله المدة المحدّدة للعرض ، التجربة التي عاينتها شخصيا عشية العرض الأول بقاعة المسرح الجهوي سيدي بلعباس ، تجعلك تعانق الظلام وتطلق العنان للإحساس بالظلمة وأنت تشاهد العرض مغمض العينين دليلك سمعك وتفاعلك وتفكيكك أيقونات العرض .

العرض الذي قادنا الى عالم محموم بالدكتاتورية والقمع والتزمّت ، وانعكاسات ذلك على العالم العربي المتصدّع ، جرّاء عشق السلطة والتحديات الراهنة بين شاب وحاكم ، وعلى لسان الحيوانات يعيش المتفرج به رحلة مغامرات محفوفة بالتباين والترقب والنهايات المفتوحة على أكثر من مستوى ، “هلال” القرد المخلوع عن عرشه ورحلته نحو المجهول ، لقائه مع السلحفاة ” دايا” وعلاقتهما التي توطّدت والتي عرفت بدورها كذا تعارض من لدنّ عشيرة ” دايا ” ، وتتوالى الأحداث وتتصاعد الصراعات بين مدّ وجزر ، في العرض السلطة للسمع ، لتتبع موسيقى الحوار المنطوق به ، لحركيّة الفضاء الذي يشغله الممثلون الذين اعتلوا الركح لأول مرة بحياتهم ، أين قاسمهم المتلقي الإحساس بالعالم وبالفضاء الدائر أقلّه مدّة العرض ، فهم يعايشون الظلام طيلة حياتهم ولنا أن نحسّ بذلك ونوازن الفرق .

إن تجربة العرض التي خاضها ذوي الاحتياجات الخاصة من مكفوفي البصر على مستوى المسرح الجهوي بسيدي بلعباس ومع الصادق كبير ، عزّزت ثقتهم بأنفسهم ورفعت من قيمتهم الإنسانية ،وتجدر الاشارة الى أن التجربة وثقها المخرج فيديو وصورة مع حوارات جمعته بكل الممثلين استعدادا لفيلم وثائقي تمّ قطع أشواط كبيرة به من حيث حوارات وشهادات حية لهته الفئة التي خاضت أولى تجاربها في حقل الممارسة الفنية مسرحيا ، ومع ذلك شاءت الأقدار أن تخطف المنيّة مطلع سنة 2015 أحد الممثلين وهو الشاب الموهوب ” حميدي عبد القادر ” ، وقد كانت دورة المهرجان الثقافي المحلي للمسرح المحترف بسيدي بلعباس في طبعة تاسعة سنة 2015 على شرفه أين كان هو عريس الدورة من خلال عرض الفيلم الوثائقي وتكريم عائلة الفقيد ، حيث أن الدورة كاملة اتخذت شعار ” المسرح وذوي الاحتياجات الخاصة ” ، وذات الدورة استضافت عرضا من المسرح الوطني ” محيي الدين بشطارزي” تحت عنوان
” معاق ولكن …” لــ” جمال قرمي ” .

التجربة الرائدة لكل من ” بلفكرون مباركة” ، ” بوليلة وردة ” ،” بودراع حكيمة ” ، ” لحوالي محمد ” ،” بن صافي محمد أمين ” ،”مرابط سمير ” و المرحوم ” حميدي عبد القادر” كانت عملا احترافيّا وإنسانيا ، السيد فيها كان الوجدان وحبّ المغامرة ، بلمسة إبداعية وحمل الجمهور على معايشة واقعهم اليومي .

على ضوء تلكم التجربة آنذاك صرّح لنا السيد ” أحسن عسوس ” مدير المسرح الجهوي لسيدي بلعباس أنّه شخصيا مهتمّ بهته الفئة ومدرك لحجم إمكانياتها وقدراتها للتعبير عن دواخلها ، وبما أنّ مهمة المسارح بشكل عامّ تكمن في الخدمة العمومية كان لابدّ من الانتباه الى شريحة ذوي الاحتياجات الخاصة ، والتفكير الجديّ في منحها فرصة اعتلاء الركح ، وبالتنسيق مع ” الصادق كبير” تمّت الفكرة ،المستوحاة من ” الصندوق الأسود” وكان التصميم فيها مبنيا على إدخال الجمهور في عالم فاقدي البصر بخوض مغامرة العرض في الظلام الدامس دونما نقطة ضوء ، حتى نتعايش معهم ونقاسمهم عالمهم الروحي ، والعرض عرف مشاركة ذات السنة ( 2012 ) بالمهرجان الدولي للمسرح ببجاية ، وجولة فنية على مستوى مسارح بعض الولايات .

تعزيزا لذات المبدأ وتثمينا لعطاءات ذوي الاحتياجات الخاصة ، مسرح سيدي بلعباس يعرف تجربة ثانية وجديدة تندرج ضمن تظاهرة قسنطينة عاصمة الثقافة العربية مع ذات الفئة- فاقدي البصر- ، ويضيف متحدّثنا أنّ العرض تحت مسمّى ” أوديب ” لتوفيق الحكيم ، والفارق بين التجربتين يكمن في أنّ العرض سيكون تحت الأضواء وبمشاركة ممثلين اثنين عاديين ، في محاولة التوأمة بين الفئتين بالتركيز على ذوي الاحتياجات الخاصة ، الإخراج في العرض سيكون لــ
” الصادق كبير” والسينوغرافيا لـ” يحي بن عمّار” على أن يكون العرض الأول على مستوى المسرح الجهوي قسنطينة يوم 21 أبريل من سنة 2016 ، مع تنظيم جولة فنية عبر تراب الوطن بمعدّل ثلاثين (30) عرضا .

كما استرسل قائلا أنّ الخدمة العمومية من أبرز اهتمامات المسرح ، وتحديدا مع فئة ذوي الاحتياجات الخاصة أين لابدّ من توافر الإمكانيات والوسائل لتكوينهم ودمجهم في المسرح ، على أمل أن يعمّم ذلك على مستوى المسارح بالقطر الوطني لنزّكي دور أبو الفنون ونرفع من شأن هته الفئة التي تمتلك ذات الحقوق والآمال والطموحات .

من جهته المخرج ” الصادق كبير” الذي يحمل شغف الاشتغال مع فئة ذوي الاحتياجات الخاصة لإيمانه العميق بما تكتنزه ذواتهم من طاقات وإبداعات في حاجة للتفجير والكشف عن حجمها ، أفادنا أن عرض ” أوديب” الذي يجمعه مجددا مع إدارة المسرح الجهوي سيدي بلعباس ومع فئة المكفوفين من ذوي الاحتياجات الخاصة ، تحدّ آخر يستحق التضحية والإبداع والمغامرة مع فئة لمس فيهم العطاء واللهفة المتّقدة لعيش تجربة المسرح ، وصرّح أنّ اختياره نصّ ” أوديب ” لتوفيق الحكيم يأتي نتيجة قناعات وبحث مستمر ليلامس الإسقاطات التي يرجوها في عالم الألفية ، نص
” أوديب ” الذي كتب في الأربعينيات لابدّ من إحداث تغييرات مكثفة به حتى يوصل الأفكار ويحدّد العقدة ، فالنص باعتباره شعريّ ومطوّل ، يستدعي منه كمخرج التصرف به دون ملامسة الأساس مع إحداث التعديلات الملائمة لإسقاطات تلامس واقعنا بخاصة في البعد السياسي وما يعتريه من لبس .

إذ بين ” أوديب ” في رواية ” سوفوكليس” وأدويب” للحكيم تباين واضح في التناول ، وإن عدّ الأوّل أكثر تعبيرا عن الأزمة السياسية وروح عصره ، فان الثاني هو الآخر تناول ” أوديب ” من وجهات متعدّدة بما في ذلك منحه روح الدين الإسلامي ، ومع ذلك النقط المشتركة والتي سيركّز عليها هي صراع الزعامة والأزمات السياسية مع الوقوف عند كل الجزئيات ، الأمر الذي يتطلب من المخرج جهدا مضاعفا بخاصة في التعامل مع هكذا فئة وبحجم نص في شكل ” أوديب ” ، كما أفادنا ذات المتحدّث أن العرض يعرف مشاركة ستة ممثلين من ذوي الاحتياجات الخاصة وهم ” شولي نصيرة ” ، ” لحمر بلحاج رميصة ” ، ” صلعة مونيا ” ، الحام شريف فاطمة ” ، ” بن صافي محمد ” ، ” مرابط سمير” ، والجديد ههنا إشراك ممثلين عاديين وهما ” أحمد بن خال ” و” بوترفاس أمين” ، مع مساعدتي المخرج ” لعلى إيمان ” و” زاير زينب” ، وأكّد أن العرض سيتمّ عكس تجربة 2012 أين سيعرف جلّ المقاييس من إضاءة سينوغرافيا ، والتركيز على أصوات الممثلين وخطواتهم بخاصة مكفوفي البصر ، فخطواتهم تلكم هي اتّزانهم ومركز انتباههم .

كما أضاف أنّه سيستند في العملية الإخراجية الى مدرسة ” برخت ” في البعد الملحمي والتغريب، وأنّه في تعامله مع مكفوفي البصر يكتشف الجديد كلّ حين ، وهو يركّز على أهمية الجانب السيكولوجي في التعامل معهم ومنحهم حريّة التواصل والعمل الذي من شأنه أن يعزّز ثقتهم أكثر .

وقد أكّد أنّ التجربة هته كسابقتها تعدّ رائدة ومميزة على أكثر من صعيد ، مبديا أمله الكبير في اقتفاء خطوات مسرح سيدي بلعباس على مستوى باقي المسارح ، مع التفكير الجديّ في التعامل مع الطفل الذي غابت أنشطته مسرحيا وسينمائيا ، فما بالك إن تحدّثنا بشأن ذوي الاحتياجات الخاصة الذين يلزمهم الكثير من التأطير والتكوين لإدماجهم وإشراكهم ، وهم لا يختلفون عن البشر العاديين إذ يمتلكون نفس الحب ونفس الطموح ، وان اختلفت الإعاقة لابدّ من التوجيه والتكوين أكثر ، والطفل مهما كان هو جمهور الغد .

وعليه ، نخلص الى أنّ التجارب الفنية التي يعيشها ذوو الاحتياجات الخاصة هم الأحق بها إذا ما فكرنا بتكوين فاعل وفعّال ، أين لا بدّ من توافر الجهود والإمكانيات اللازمة ، مع توافر الإيمان العميق أنه لا شئ مستحيل في عالم محكوم بالشغف ، بالسحر ، بالحب والآمال والجمال ألا وهو المسرح ، والمعاق دوما ليس صاحب عاهة ما ، وإنّما المعاق في عقليّته وطريقة تفكيره ومساره ورسم أهدافه هو الأحق بمفردة معاق وليس من خلق بتشوّه ما ، أو تأخّر ما ، فالإعاقة مستويات ودرجات .

بقلم : عباسية مدوني –سيدي بلعباس- الجزائر

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *