سنوات الجمر والرصاص بين المسرح والسينما في المغرب

عقدت في رحاب كلية الآداب في تطوان ندوة وطنية بعنوان «سنوات الجمر والرصاص بين المسرح والسينما» بشراكة بين المركز الدولي لدراسة الفرجة ومجموعة الأبحاث والدراسات السينمائية والسمعية البصرية.
تناول الكلمة في البداية يونس الأسعد الرياني ، فأشار إلى أن هذه السنوات قد استمرت أربعة عقود ونيف، ودارت رحى الصراع بين النظام الملكي والمعارضة بمختلف أطيافها (اليسار التقليدي واليسار الجديد) حول نظام الحكم، وأسهمت فيه المؤسسة العسكرية بانقلابين فاشلين. وأشار حميد العيدوني باسم مجموعة الأبحاث إلى أن البحث في سنوات الرصاص وعلاقتها بالسينما بدأ منذ الندوة الأولى سنة (1987)، وتلتها الثانية سنة (2000)، في محطة لبنان، حول «أخلاقيات الشهادة»، واستمر في الندوة الثالثة مع انطلاق الربيع العربي (2011)، في كلية الآداب في موضوع «السينما شاهد على العصر». وفي سنة (2012) نظمت ندوة في موضوع «تمثلات سنوات الرصاص»، وهي تتمة لندوة لبنان، ثم أقيمت ندوة «الأرشيف، التاريخ والهوية» (2013)، عن السنوات ذاتها. وكم سألنا باحثين «لماذا تشتغلون على سنوات الرصاص، والمغرب يمثل نقطة ضوء في العالم العربي؟» فكان الجواب أن على الباحثين أن يستمروا في البحث لأن ذلك يمثل ضرورة، ولأن السياسيين نفضوا أياديهم من الموضوع وأن المقاربة السياسية نفعية. ثم إن جيل ما بعد سنوات الرصاص لا يعرف شيئا عن هذا الماضي القريب، والهدف هو الرغبة في عدم تكرار هذا الماضي البشع.
بين محمد قاوتي أن المركز الدولي لدراسة الفرجة يسلط، بهذه التظاهرة، ضوء التأمل والتفكير في المسكوت عنه، لأنه لم يستوف حقه من المبدعين عبر كل الأشكال التعبيرية. في وقت أصبحت إزالة الغطاء عن الأشياء لا تؤدي إلى العقوبة. وأكد أنه يجب أن نتميز بالحذر لأن الاستبداد يلازم البشر والسلطة. كما أثنى على المركز، هو الابن البار للكلية، لأنه فتح باب النقاش بين الجامعيين (إريكا فيشر، كارلسن، بافيس) والفنانين مثله، ولأنه نشر عددا من الكتب في المسرح.
في الجلسة الأولى، عرض عبد اللطيف شهبون «لذاكرة العنف في الكتابة المسرحية المغربية» عبر مسرحيتين عرضتا عليه لإبداء الرأي، الأولى «الطرز على الحديد الساخن» في السبعينيات والمغرب زخار بالعنف، والثانية لأمين بنيوب «الكرنفال» سنة (2005). ويعكس العملان ذاكرة العنف المرتبطة ذاتيا وموضوعيا بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، ويهدفان إلى مناهضة العنف وتوثيق التاريخ، ونشدان الحق والعدالة والديمقراطية.
وما زلنا في مرحلة معرفة الحقيقة للمصالحة الوطنية، ونفتقر إلى مكملات: معرفة الحقيقة من أجل ماذا؟ وعاد محمد قاوتي لتقديم عمله المسرحي «نومانز لاند» فبين أنه كتبه في عز سنوات الرصاص، وكان على الكاتب أن يؤمن نشر نصه، ما دفع بالكاتب إلى عدم الاصطدام مع رقيب الأجهزة القمعية. عرضت المسرحية أول مرة سنة (1984)، وظلت تعرض حتى سنة (1988). ثم ختم حديثه بقراءة فصل من النص. وقدم المخرج عبد المجيد الهواس قراءة في مسرحية «شجر مر: نحو قراءة ركحية لسنوات الرصاص»، مبرزا أن العمل مر بمحطتين في إنتاجه، الأولى قراءة مقاطع من نصوص كتبت في سراديب المعتقلات أو بوحي منها حين الاتفاق مع هيئة الإنصاف والمصالحة، والثانية حين فكرت فرقة «أفروديت» في تقديم عرض تعبيري فني ينخرط فيه الفنانون، وذلك بمناسبة ندوة المركز الدولي في موضوع «الذاكرة والمسرح» (2015)، ففكرت الفرقة في إعادة طرح الأسئلة التي بقيت معلقة من التجربة الأولى. وهكذا عمد العرض إلى أعضاء مجسمة لممثلين يبرزون من اللوحة أو يخترقونها، وتتوالى المقاطع وتتواتر المشاهد التعبيرية ضد سلطة الجلاد، بل عاقبه العرض وأنبه: كان يمشي ثم أصبح مقعدا، وانتهى في جحيم كرسي متحرك.. عاقبَ الحلم فعُوقِب. ويرحل السجين ويبقى السجان.
فالعمل احتفاء بالسجناء عبر احتفاء السرد بهم، واحتفاء بالذين غابوا بقراءة المتون. ومعلوم أن المسرحية من تأليف وإخراج الهواس، وقد زاوج بين قراءة النص وتقديم مقاطع من المسرحية. بعد ذلك عالج الناقد السينمائي، خليل الدامون، سنوات الجمر «عبر المعاينة والإشهاد» فأكد على أن إعادة مشاهدة الأفلام التي أرخت لهذه التجربة مع تطور النقد جعلتها تبدو بسيطة، على الرغم من أن بعضها حاز جوائز. فقد تبنى المجلس الوطني لحقوق الإنسان ستة أفلام روائية، ثم أنجزت أربعة أخرى وواحد وثائقي. وهي تعبير عن قراءة أصحابها. وتساءل لِمَ لَمْ يتجرأ مخرج على انجاز فيلم وثائقي صرف باعتماد وثائق مكتوبة. ثم انتقد المتدخل تشابه هذه الأفلام في اختيار شخصيات مثقفة (باستثناء الوثائقي: «أماكن ممنوعة»)، واللقطات الكبيرة، والفضاءات ذاتها، والشعارات التي رفعها السجناء داخل المعتقلات، وتوظيف أغاني مجموعة «ناس الغيوان»… فهل تشكل هذه العناصر المرامي البعيدة والقريبة، دواء للوجدان الجماعي المغربي لصناعة ذاكرة متفق عليها؟ وكان موعد الحضور، خلال اليوم الأول، مع عرض خالد أمين، الموسوم «بمسرحة الشهادة: جلسات الاستماع نموذجا». وبين أنه اختار شهادات المعتقلات خلال جلسات الاستماع لأهميتها، فقد صعب على الجلاد قبول نساء مناضلات، ثم إن معاناتهن كانت أضعافا مضاعفة عن معاناة الرجال، بل أن تسريد المعاناة مثلت معاناة مضاعفة، لأن خطوطا حمراء واجهتها: هناك أشياء تتعلق بحميمية الجسد، ويصعب أن تتحدث عنها الأنثى في الشهادة وعبر المذكرة.
وقد ركزت الورقة على الفظيع والفاجع من زاويتين: مشهد الفاجعة، كيف عاشت المعتقلات الفاجعة في مختلف فضاءات الاعتقال، وكيف عشن الفاجعة مرة ثانية وثالثة ورابعة… في مشهد الحكي. وبين هذين المشهدين هناك مسافة مهمة جدا تشتغل على الذاكرة، وعلى الوثيقة… فحين تقدم الشهادة تصبح وثيقة، وهنا يتقاطع اشتغال الذاكرة مع اشتغال المؤرخ.. وما دامت شهادات هؤلاء النسوة قد دونت فقد أصبحت شهادة في كتاباتهن الخاصة، لكن شهادات الاستماع العمومية أعطت نكهة خاصة لها. فقد كانت الشهادات تقدم على وسائل الإعلام على الهواء. لكن أصحاب الشهادات وقعوا من قبل على التزام ألا يعلنوا عن أسماء الجلادين، ولا يشتموا الأشخاص ولا الهيئات السياسية.. «ومعنى ذلك أن الشاهد كان متواطئا مع الطرف الآخر حين قبل بهذه اللعبة». ومن هنا يأتي جانب مسرحة الشهادة، حيث أنه يستحيل على الجانب الرمزي أن يتقبل ويتمثل هذه الصدمة، كما هي، بأي نوع من أنواع التعبير الرمزي، سواء كانت فنية أو لغوية. فالفاجعة أكبر من النظام الرمزي، لأنها تحدث شرخا في النظام الرمزي.
ومن هنا قوة الفاجعة، ولذلك حين غادر المعتقلون السجون، لاذوا بمرحلة من الصمت، ثم انتقلوا من الصمت إلى البوح. والبوح يلتقط لحظات، وإشارات من الفاجعة ويحاول ترميمها بناء على هشاشة الذاكرة. ولن يستطيع التعبير عن الفاجعة كما عيشت.
ويستحيل على البوح التقاط تفاصيل الفظيع.. لذلك كانت تعتري الشهادات لحظات صمت، وتمتمة، وبكاء، وهستيريا.. وهي لحظات تطلب التدخل لملء الثقوب بالمعنى.. وهو دور الإبداع السينمائي أو المسرحي لتضيء هذه اللحظات، فضاءات العتمة، التي يستحيل على الشهادة التعبير عنها. وعلى الرغم من أن الإبداع جزء من النظام الرمزي فله طرق للسَمْيَأَة. ومن هنا تأتي قوة التكثيف الشعري، والشعرية التي تتعامل مع الفاجعة بجمالية تتجاوز الفج، والمباشرة، ونقل الفظاظة والفجاعة كما هي..
وخلال المناقشة تمت الإشارة إلى أن من مميزات هذه الندوة تركيزها على المتخصصين في المسرح والسينما ونقاد الفن والأدب أيضا، وخلوها من السياسيين لأنهم هيمنوا على تناول الموضوع على الدوام، ولأن السياسة رديف المناورة والمقايضة.

عبد العزيز جدير

http://www.alquds.co.uk/

 

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *