يشارك الآن في مهرجان فاس المسرحي إن بوكس كوميديا سوداء تفضح الواقع المزيف/

 

بدأت علاقة الأغلبية بالفيس بوك مع بداية الثورات، وكان له دور رئيسي في اندلاعها، وكلنا عايشنا هذه التجربة، ثم تحول الفيس إلى ساحة للإتهامات والصراعات والتلصص، وزرع الفتن والعلاقات غير المشروعة. من هنا توقف الدكتور “سامح مهران” وطرح أسئلته العديدة من خلال نصه “إن نتيجة بحث الصور عن نور الهدى عبد المنعمبوكس”: هل ما عايشناه كان ثورات حقيقية؟ هل هذه الثورات حققت إنجازات فعلية؟ هل الشهيد هو شهيد بالفعل؟ أم أن كل ذلك افتراضيَا؟ وكأنه يعيد علينا أسئلة “ديكارت” عن حقيقة الوجود، بالفعل النص به عمق فلسفي فضلاَ عن عمقه السياسي والإجتماعي والأخلاقي، فلم يغفل الذين تاجروا بكل شئ ولعبوا على كل الحبال متسترين خلف أقنعتهم التي استطاعوا بها خداع كل الفئات، كما خدعوا أنفسهم أيضَا. ووقعوا فريسة لخداع الغير لهم.

المحور الرئيسي في العرض هو “البوكس” صندوق الرسائل الذي يشبه جراب الحاوي حيث يحوي الكثير من الأسرار عن صاحبه، لكن الاختلاف بينه وبين الجراب أن الحاوي فقط هو الذي يعرف ما يحويه جرابه، أما هذا الصندوق فبفعل التكنولوجيا نفسها التي اخترعته، اخترعت له وسائل للسطو عليه ومعرفة ما يحويه من خلال خبراء في هذا المجال، فأصبحت حياتنا عارية ومكشوفة لا نستطيع إخفاء أسرارنا.

اكتمل جمال النص وروعته حين تناوله المخرج جلال عثمان، وأضفى عليه برؤيته وخبرته، عناصر أخرى بداية من توزيع الأدوار واستغلال مساحات الخشبة، واختيار الأغاني، والشاشة السينمائية التي استخدمها كبديل للكمبيوتر في عرض الدردشة على النت، وطرحه في قالب كوميدي، ولم يفته حتى الأخطاء الإملائية الفجة التي يقع فيها أغلب الناس حتى المثقفين وفضحها الفيس. 

نجح الفنان الكبير “عبد الرحيم حسن” في تجسيد شخصية الرجل الذي يعتقد في نفسه أنه أذكى رجل في العالم، وبإمكانه اختراق الصندوق الشخصي لكل واحد ويعرف من خلاله كل شىء عن صاحبه، ومن خلال هذه الخبرة اختار زوجته التي لم ير لها أية تجارب عاطفية، فتزوج من إمرأة حملت سفاحَا من شاب استشهد أثناء أحداث الثورة، هذا الرجل هو نفسه الذي خاض تجارب عاطفية ليس لها عدد، لم يستطع أن يكون أن يكتشف خداع زوجته رغم شكه فيها، ولم يستطع أيضَا أن يكون زوجَا حقيقيَا، لأنه في لم يدخل في أية علاقة حقيقية فعلاقاته كلها كانت افتراضية من خلال النت، فيلجأ حتى مع زوجته التي تعيش معه في البيت نفسه إلى هذه العلاقة الافتراضية، ولكنها تفشل أيضَا لكونه لم يستطع التفرقة بين زوجته وأية إمرأة أخرى يعرفها عن طريق الإنترنت.

وحين شاهدته يجسد شخصية كوميدية بهذا الشكل، حيث الرجل المتصابي الذي يرتدي باروكة وشورت وقميص مشجر، ويتكلم بهذه الطريقة الصبيانية، تبادر إلى ذهني تساؤل: هل قبل هذا الدور بسهولة أم احتاج إلى جهد لإقناعه، وبالفعل سألته لأنني أراه مجازفة كبيرة من فنان كبير له تاريخ عريق، جسد على المسرح من قبل شخصية المناضل السياسي وشخصية الحكيم وغيرها من الشخصيات التي تتسم بالوقار، فكانت إجابته أنه بالفعل كان قلقَا من هذا الدور الذي يجسده لأول مرة واحتاج وقت ليقتنع به، حتى في بداية البروفات لم يدخل إلى هذه الشخصية بسهولة، وقد أجاد وحقق إنجازَا أضيف إلى إنجازاته السابقة، وفي اعتقادي أنه ربما لو كانت هذه هي الشخصية هي الحقيقية في العرض أو المحورية، لكان من الصعب جدَا أن يقبل، كما كان من الصعب أن يتقبله المتلقي بسهولة، لكنه تمثيل داخل التمثيل، مما يجعل المتلقي يتعاطف مع هذا الرجل الذي يلجأ إلى الحيل للتغلب على عجزه. 

جسدت الفنانة “إيمان إمام” شخصية الفتاة الفقيرة التي دفعها الفقر للزواج من رجل يكبرها في العمر بفارق كبير، ورغم هذا الفارق ورغم عجزة إلا أنه لم يستح حين عايرها بفقرها وضيق حال أسرتها التي لم تقدر على المساهمة في تأسيس منزل الزوجية، المغلوبة على أمرها حيث أحبت شابَا حملت منه سفاحَا ثم استشهد أثناء الثورة، وفي حواراتها المتخيلة مع هذا الشاب تٌطرح العديد من الأسئلة: هل هو شهيد فعلاَ، هل لديه قيم ومبادئ يؤمن بها، هل مات دفاعَا عن الوطن أم بفعل الصدفة. هذه الفتاة نفسها نجحت في خداع الرجل الذي استطاع أن يخدع كل الناس وتزوجها لاعتقاده أنها فتاة بلا تجارب عاطفية، ثم تصدم في هذا الرجل الذي أوهمها أنه عربيد ثم اكتشفت عجزه. رغم أن الدور ليس سهلاّ وبه جهد كبير وقد أدته إيمان باقتدار وحيوية ورشاقة، إلا أنه لم يبرز كل مواهبها، فلديها الكثير الذي تستطيع تقديمه، كما أنها أخفقت بعض الشئ في نقل كم المعاناة التي تتحملها هذه المرأة التي تحمل في أحشائها جنين بدون أب، وتعيش مع زوج بلا حياة زوجية، وتبذل قصارى جهدها للوصول معه إلى علاقة زوجية كاملة، ليس رغبة في هذه العلاقة، لكن ليكون لهذا الجنين أب، فتحولت الكوميديا من وسيلة للتحايل على هذا الموقف الصعب إلى هدف، فلم تكن أمل التي لم يذكر اسمها سوى مرة واحدة خلال العرض، مجرد فتاة مأزومة وقعت في ورطة تحاول الخروج منها، لكنها جسدت أزمة الأمل المفقود، في حياة سوية مكتملة لها ماض أو تاريخ يمثل الأرض الصلبة وحاضر معاش فعليَا وليس افتراضيَا، ومستقبل له ملامح.

كل شىء في العرض افتراضي حتى حالة العجز التي يعاني منها الزوج، فهي إسقاط على حالة العجز والإنكسار العام الذي نشعر به جميعَا، سواء كنا سلطة أو معارضة أو مواطنين بسطاء ليس بمقدورنا فعل أي شئ تجاه ما يحدث حولنا.

حتى كوميديا العرض نفسها افتراضية، فكانت بمثابة الذي يضحك من كثرة همومة، ويسخر منها، حتى تحول إلى مسخ. 

  شىء واحد لم يكن افتراضيَا، رغم كونه لا يتفق مع المنطق ولا الواقع هو الساعة التي لها دورَا حيويَا وهامَا، فهي الزمن الذي تدور فيه الأحداث والذي لا يمكن أن يكون افتراضيَا أبدّا والناقوس الذي يدق ليعلن الحقائق ويكشف الكذب والزيف، وقد برعت الفنانة وفاء السيد في تجسيد هذا الدور في قالبه الكوميدي، بأدائها المتميز وملابسها غير التقليدية المصممة خصيصَا للشخصية، أما باقي الفنانين فملابسهم تقليدية، مما يجعل دورها أكثر وضوحَا.

نجح الديكور الذي صممته رامه فاروق ونفذته مايسة محمد في إبراز حالة العجز المتمثلة في السرير المعلق الذي لم يستطع الزوج صعوده، ولم يصعده ولا مره خلال العرض، بل كانت الزوجة دائمَا فوقه والزوج أسفل، أو حبيس في الشبكة المتدلية منه، كذلك المرجيحة التي تمثل الدنيا التي ترفعنا ثم سرعان ما تهوي بنا، والمرايات المبهمة التي  تعكس صورَا مشوهة، أما العنصر الأكثر دلالة في  الديكور فهو عرائس الورق المعلقة في الهواء، والتي تزداد كثافتها أثناء ترديد شعارات الثورة التي أضحت مجرد وريقات طائرة في الهواء، وهي في اعتقادي أنها أكثر العناصر تعبيرَا عن واقعنا الحالي، فكلنا أصبحنا نشبه هذه العرائس التي تذروها الرياح.  

العرض مبهر تتوفر به كل عناصر الفرجة المسرحية، وقد حصل مؤحرَا على جائزتين “البرونزية لأفضل تمثيل رجال للفنان عبد الرحيم حسن” وجائزة لجنة التحكيم الخاصة بمهرجان المسرح الحر بالمملكة الأردنية.

من أهم ما يميز فرقة مسرح الغد والقائمين على العرض هو الحرص على البعد الإنساني حيث خصصوا يوم أجازة المسرح لعرض حفلة خاصة لأسر شهداء الشرطة، لإدخال حالة من البهجة ولو مؤقتة لفترة قصيرة هي زمن العرض، أعقبها تكريم لبعض الشهداء، وبعض قيادات الشرطة، ومن هنا وجب الإشادة بهذا الموقف الإنساني، لكل من شارك فيه وعلى رأسهم  مايسترو العمل المخرج إسماعيل مختار مدير الفرقة ومنتج العرض.

المصدر/ مصر المحروسة

محمد سامي / مجلة الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *