«هـدوء نسـبى» لمسـوخ مؤجـلة / هند سلامة

نشر / محمد سامي موقع الخشبة

«هدوء نسبى».. أو «METAMOROPHOSIS» عنوانان مختلفان لعمل واحد، يحمل كلاهما معنى مفسرا أو مكملا للآخر، الاسم الأول تمهيدا لتوضيح المعنى اللاتينى للعرض، فالهدوء النسبى هو حالة التربص والترقب التى تسبق الإصابة بمرض عضال، وهى حالة ظهور أعراض المرض الذى ما إن تمكن منك أدخلك فى مرحلة التحول أو التبدل من هيئتك الحقيقية إلى هيئة حيوان أو جماد أو أى شيء آخر ينفى بشريتك.
تغضب علينا الطبيعة عندما نكفر بها، وكذلك تغضب علينا أجسادنا عندما نسييء إلى آدميتنا، تبدل حال الإنسانية   فأصبحت هما مثيرا لفكر وخيال المبدعين، وهو ما دفع عددا من المخرجين لتناول انقلاب معايير المجتمع الأخلاقية بأشكال متعددة تدور فى نفس سياق فكرة المرض والتحول، فمنهم من سخر من حاله سخرية لاذعة، مثل «سلم نفسك» وبعد الليل للمخرج خالد جلال، وهناك من رأه واقعا مؤلما وحزينا فى «الزومبى والخطايا العشر» للمخرج طارق الدويري.
بينما فى «هدوء نسبي» رأى مخرج ومؤلف العرض الواقع أشد ألما وقتامة من العروض السابقة، فعلى غرار ما تخيل كافكا بطل روايته «المسخ» شخص استيقظ من نومه ليجد نفسه تحول إلى حشرة زاحفة «صراصارا»، رأى المعتز بالله المجتمع وقد تحول إلى كائنات متوحشة غير آدمية تحيا بمكان غير آدمى فى انتظار الموت..أب وأم وابنه يعيشون فى مكان مهجور خلا من كل مظاهر الحياة، يدخله الجمهور فى حالة من الترقب لما سيحدث فى اللحظات المقبلة مثل ابطال العرض تماما، ثم تبدأ المغامرة باكتشاف هذا المكان عن طريق كشافات الإضاءة التى توزع عليهم جميعا بجانب مجموعة من القناعات الواقية وأخيرا أساور اليد التى يكتب عليها اسماء المرضى بغرف المستشفيات لتعريفهم، حالة من التوحد والمشاركة الوجدانية الحقيقية يعيشها جمهور عرض «هدوء نسبي» فى هذه المغامرة المسرحية الواقعية بأحد الأماكن المهجورة بوسط البلد بشارع عماد الدين وهو مبنى سينما دار القاهرة، تهاوى المبنى وأصبح خاويا مهجورا مقبضا ومخيفا، يدخل الحضور من باب يشبه المغارة المهجورة ثم يتسلم كل فرد أدواته، ويبدأ فى الصعود لدرجات السلم المهدم وأثناء مروره لدخول القاعة التى تجرى فيها أحداث مشاهدة العائلة الممسوخة تصادفك مجموعة من الدبابيس الموضوعة على أحد الألواح الحديدية، وكأن فريق العمل يعلن بأنك «اتبدست»، تروادك وقتها مشاعر متضاربة بين الرغبة فى الهروب من المكان لإحساسك الدائم بالخطر وتوقع حدوث شيء خطير لا تدرى ما هو، ثم الرغبة فى الاستمرار والبقاء وسرعان ما ينتصر الفضول على الخوف وتكتمل المغامرة..!
بالفعل يبدو العمل حالة كاملة من التورط والمعايشة المسرحية حتى أن جميع الحاضرين خرجوا بمشاعر حزن والم ممزوجة بفزع ونفور شديد، فعلى أضواء الشموع وبين انقطاع وعودة التيار الكهربائى ترى مراحل متدرجة من الانمساخ، فى المرحلة الأولى تدرك الابنة هذا التحول الذى اقترب منها فتخشاه وتتحاشاه بالمقاومة، عن طريق تناول الأدوية ووضع مسحوق البودرة وحقن نفسها بمادة تحفظ لها بشريتها بقدر المستطاع فجلدها أصبح يتحرق بالتدريج، ثم الأم التى تسير زاحفة على الأرض وتحمل بيدها جهاز للتليفزيون وقد تشوهت ملامحها تماما فلا نرى منها سوى شعر طويل ووجه اسود لا تقدر على تمييزه وجسد حمل نتوءات سوداء وكأنها شبح لشخص لا نعرفه، حتى انتهى بها الأمر وتحول رأسها إلى جهاز التلفاز المشوش الذى تحمله فى يدها طوال عملية الزحف، وأخيرا شخصية الأب الذى مسخ بالفعل على هيئة خنزير، وأصبح غير قادر على الحركة وصوته متحشرج، توحشت شخصيته وأصبح يتغذى على عظام ولحم نييء، أصبح نذيرا لنا ولعائلته بترقب وصولنا جميعا لهذا الحال بعد أن تمحى بشريتنا فحتى لو لم نتبدل لخنازيرا سنتحول إلى أشياء أخرى كريهه وكأننا فقط مجرد مسوخ مؤجلة..!
خلا العرض من نص مسرحى درامى له بداية ووسط ونهاية فهو لا ينتهي، لا يقدم ابطاله على تحية الجمهور المعتادة فى لحظة إعلان ضرورة هروبنا من المبنى لأنه ينهار..!، اعتمد على هيئة ابطاله وافكار مخرجه ومؤلفه عمر المعتز بالله التى تحولت إلى جمل تتردد على ألسنتهم جميعا «هل نحن بشر؟!، «ماذا تبقى من الوقت؟!» فالجميع ينتظر ساعة الموت ويقولون دائما طالما أنه لم يأت فجأة فمازالت هناك فرصة، ولاتزال الفرصة حتى يموت الأب أو المسخ وتعلقه ابنته من قدميه وكأنه عجل تم ذبحه وتعليقه على أحد أبواب محلات الجزارة، إلى هذا الحد يرى مخرج العرض حال ووضع المجتمع الذى أصبح بغيضا غير محتمل، ووصلنا إلى ذروة التشوه النفسى إلى حد زوال ملامحنا، وأصبحنا كائنات أخرى لا تستحق الشفقة أو الحياة، كائنات لن تتردد فى أكل بعضها البعض، فكما قال الله تعالى «أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا..فكرهتموه» ..فبرغم كراهيتنا جميعا لهذا الفعل إلا أننا لم نتردد بل وأحببنا أكل هذا اللحم الفاسد بدء من ابنته التى جلست تقطعه وتفرمه بهدوء ولامبالاة من بداية العمل وحتى نهايته، وانتهاء بنا فى آخر مشهد وهو مشهد التناول الذى استوحاه المخرج من الطقوس المسيحية ففى النهاية تقدم الفتاة لحمها المفروم للجمهور كى يتناوله، وكأننا أصبحنا جميعا جسدا وفكرا واحدا بتوحدنا مع هذا الرجل بجانب العلبة الصفيح التى توزع على الجمهور وكتب عليها تاريخ إنتاج وإنتهاء صلاحية العرض أو «اللحم الفاسد» الذى خرجنا به فى ايدينا، فكما تعتبر المسيحية فى فلسفة تناولها أن «كلنا جسد وفكر واحد مع المسيح» باختلاف التشبيه بين الحالتين، يضعنا المخرج فى هذه المعايشة الكاملة.
لم يتفرد فريق العمل فى اختيار المكان فقط، للتأكيد على توحدنا مع شخوصه حتى أنه يصل إلى حد الهدم فى النهاية، وكأن الحياة تهدم على رءوسنا جميعا، لكنه امعن فى التميز والإتقان غير المسبوق فى صناعة المكياج للممثلين بتفاوت درجات تحولهم وانمساخهم جميعا، ووصلت ذروة التميز فى صناعة قناع وجه الخنزير ثم العروسة الصغيرة المتحركة التى تسير ضجرا بالمكان وتهرب منه فحتى هذه اللحظة لا نعلم هل هذه لعبة أم كائن حى متنكر، ثم أداء الممثلين الذى وصل إلى أقصى حدود الإبداع سارة خليل التى تبدلت ملامحها تماما هى ومن معها، وعادة ما يساعد المكياج المبالغ فيه الممثل الضعيف لرفع أداءه أو قد يخدعك فى الحكم على مستوى التمثيل، لكن هنا وعلى غير المعتاد طغى حضور وحرفة الممثلون جميعا على قوة صناعة المكياج لدينا سالم، قدموا أدوارهم بمهارة بالغة الدقة والاحتراف كأنك تشاهد أحد أعمال السينما العالمية، سارة خليل فى فزعها وخوفها وحيرتها الدائمة من الحياة وانتظار الموت ومقاومة التحول، والأم التى تحولت إلى نصف مسخ زاحفا على ركبتيها طوال العرض بإنضباط حركى شديد مع ايقاع صوتها الهزيل والجريح فى انتظار المجهول أدت نورهان صالح دورها باقتدار وكذلك أحمد الشرقاوى الأب الخنزير الذى ارتدى قناعا لم يدار موهبته، ولم يمنعه من التمكن من الشخصية بدرجة اخترقت حواجز الأقنعه بصوته المتحشرج ومشيته المتعرجة وانفاسه اللاهثة الباحثة عن مخرج من هذا الجحيم!

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *