نحن نحاول أن نُجرب مسرح اللاتوقع الحركي القصير أنموذجا

يحمل التجريب في المسرح صورا عديدة من حيث مرور المسرح عبر العصور بمراحل مختلفة تمخضت عنها الكثير من المدارس والمذاهب المسرحية على المستويات كافة، تأليفا وإخراجا وتمثيلا، وبالاطلاع على هذه المدارس نرى أنها اتفقت في عمومها على أن المسرح هو محاكاة للحياة وما يدور عليها، ومع متغيراتها وتطورها ظهرت تلك المدارس التي تعكس وتحاكي المعطيات الراهنة على وفق الحقب الزمنية التي رافقتها.
إذ من البديهي ان الحياة تتطور، ومستوى الوعي لدى الانسان ينمو مع تطور الحياة، ما يعني وللوهلة الأولى أن التجريب هو محاولة ايجاد شيء جديد ينسجم مع تطور الحياة وتقدم الوعي الانساني وتطور تكنولوجيا الاتصال بين الناس، فالتجريب هنا هو التجديد، بخاصة في المسرح، لكن هل يعني ذلك ان التجديد يعني التطوير؟، ربما نحن نجدد بمعنى اننا نضع أشياء جديدة ذات كفاءة أعلى من سابقاتها من الأشياء “التالفة”، اننا نجدد ونضع بدائل ضمنية أو كلية على اشتغال منظومة العرض في المسرح التجريبي، لكن هل أن هذه البدائل هي بدائل حقيقية لتطوير المسرح؟، وهل التجريب “التجديد” يقتصر على العرض فقط؟ أم يشمل المتلقي أيضا؟، وهل يشمل التجديد تطوير الذائقة الجمالية للمتلقي؟
بالعودة قليلا الى ما تم تناوله مسبقا نكتشف أن جميع المدارس المسرحية تلبي الحاجات الانسانية التي يفرضها العصر الذي ولدت فيه، وهنا نتساءل هل أن هذه المدارس حملت على عاتقها مسؤولية خلق متلق متطور؟ أي خلق مستوى تلق أذكى من سابقه، هنا تكمن أهمية التجريب “أقصد التطوير”، فلا بد لخطاب العرض في المسرح التجريبي ان لا يقتصر التجديد فيه على عناصر العرض فقط، إذ بالضرورة ان ينتقل الى تطوير الذائقة، ومستوى التلقي وبالنتيجة الحصول على متلق ذكي، السؤال هنا: ما المدى الذي سعى فيه المجربون في تطوير الذائقة الجمالية للمتلقي؟، وكم حاولوا صنع خطاب مسرحي، المراد منه الحصول على متلق ذكي؟
هناك تجارب كثيرة في المسرح سواء منها العالمية أم المحلية، وبحسب وجهة نظر كاتب المقال يوجد انحدار في مستوى التلقي في المسرح العراقي، بخاصة في العروض ذات السرية العالية، لربما يسعى المتلقي الى القوالب الجاهزة ذات المحتوى المضموني المباشر.
سأتناول في معرض قراءتي تجربة محلية تمتاز بأصالتها، بقصد التعرف على مدى أهميتها في تطوير الذائقة الجمالية لدى المتلقي، وهي تجربة “مسرح اللاتوقع الحركي القصير”، التي أسسها واشتغل عليها الدكتور ماهر الكتيباني في مسرحيتين من تأليفه وإخراجه هما “هسهسات، وهيت لك”. يستند هذا التأسيس للتجربة وبشكل مباشر وكما العنوان على الحركة التركيبية اللامتوقعة السريعة في مدة زمنية قصيرة، وان مسارات الفعل في عروض هذه التجربة غير متوقع أيضا، اذ نرى الحركة التركيبية التي تتشكل وتتركب من خلال اشتغال اجساد الممثلين مع المفردات الديكورية واكسسوارات العرض، والاضاءة التي تنحت سوية في فضاء العرض بشكل غير متوقع وسريع، وسريعا ما نرى ان هذه الحركة هُدمت وتم بناء حركة جديدة لا متوقعة أيضا ذات ايقاع يختلف عن ايقاع سابقتها، وهكذا حتى النهاية، وكما ذكرت ان مسارات الفعل متعددة ومركبة، فنرى في عرض مسرح اللاتوقع الحركي القصير عند مؤسسها، اشتغال أجساد الممثلين وحركتهم على خشبة المسرح تحمل دلالة تختلف الى حد كبير عن اشتغال المؤثر الصوتي المرافق لها، وكذا الحال بالنسبة للاضاءة، بل حتى الحوار وطريقة اللفظ تسير في مسار غير مسار ما ذكر، لكن الملاحظ أن هناك هارموني يحتوي هذه الاشتغالات، وعلى المتلقي أن يجمع بين هذه المكونات ويربط فيما بينها، في إطار الحدود الفكرية له، وبالنتيجة الحصول على تأويل مناسب ينسجم مع مكنوناته الفكرية والفلسفية.
ان سينوغرافيا العرض تتغير مع تغير الفكرة وبشكل متدفق وعلى المتلقي ان يفتح شفرات اشتغال السينوغرافيا، ويستوعبها بشكل سريع، كي يتمكن من الانتقال الى مشهد اخر وآخر وآخر.. حتى نهاية العرض.
وهذه العملية التأويلية تحتاج الى متلق ذكي يفسر اشتغالات عناصر العرض بشكل لحظوي ذاتي تارة وجمعي تارة أخرى، اذ أن الفكرة المشتعلة في لحظتها تفسر تفسيراً خاصاً بكل مساراتها واشتغالاتها في حين ان هذه الفكرة وبشكل لا متوقع تهبط لتنتج فكرة اخرى تسير في اتجاه يختلف عن اتجاه الفكرة السابقة الى حد كبير فعلى المتلقي هنا ان يفسر تفسيرين في آن واحد هو استيعاب الفكرة المشتعلة في لحظتها وربط الفكرة القائمة بالفكرة السابقة، وهكذا مع توالي الأفكار في فضاء العرض.
تجدر الإشارة إلى أن هذا النوع من المسرح يتميز بالنقاط الآتية:
١- الحدث فيه لا ينمو ولا يتطور بل يتكرر ويعود مرة أخرى وبشكل دائري الى نقطة الانطلاق وهذا ما اعتمده كثير من المؤلفين العالميين وخصوصا كُتاب مسرح “اللامعقول”.
٢- الشخصيات.. قد تكون عبارة عن أفكار تتشظى في فضاء العرض، تدور اهتماماتها حول الانسان واحساسه بالقلق نحو الوجود ومعاناتها من ضياع المعنى والهدف، فالشخصيات قلقة ليس لها خط أساس وهدف أعلى كما في المسرح “الأرسطي”.
٣- الحبكة في “مسرح اللاتوقع الحركي القصير” مفككة، تهمل كل العناصر المنطقية في البناء الدرامي من “عقدة وتطور وحل”.
٤- غالبا ما تكون دوافع الفعل مفقودة والتصرف غير مبرر.
٥- نرى أن الشخصيات غير ثابتة الملامح تتغير مع تغير الفكرة المشتعلة، ونلاحظ أيضا ان هناك حالة تحول وتبدل وتبادل ايضا في الأدوار، أي لا توجد ابعاد ثابتة للشخصيات.
٦- الصورة فيه لا مقابل حرفياً لها في الواقع، فيما الأجواء تقترب من الحلمية.
٧- اعتماده على المتناقضات بين القول والفعل والهزل والمأساة.
وتأسيسا على ما تمت الإشارة إليه نستخلص ان هذا النوع من المسرح يقترب كثيرا من سمات مسرح اللامعقول في حبكته وشخصياته واشتغالات الصورة، كما يعتمد على المعنى المغاير في استخدام الاشياء والمفردات الخاصة بالعرض، فلا بد أن يكون مستوى التلقي لهكذا تجارب مسرحية يحتاج الى وعي متقدم وخبرة مسرحية كافية، فضلا عن خبرة حياتية وعلى المستويات كافة لإستيعاب ما يدور في فضاء العرض وتفسير اشتغالات العرض وفق منظومة فكرية فلسفية ترتقي بالذوق وتسهم في زيادة المساحة الجمالية في وعي المتلقي، وبالنتيجة ان هذه العملية تحتاج الى متلق ذكي يفسر الاشياء فلسفيا للوصول الى جمالها وان الوصول لحقيقة الاشياء الجميلة لا بد من دراستها فلسفيا.
نصل الى حقيقة هامة تتجلى في ان هذا النوع من المسرح يحتاج الى متلق ذكي، كما أن مسرح اللاتوقع الحركي القصير يساعد إلى حد كبير في صنع ذلك المتلقي الذكي أيضا.
وأخيرا اذا كنت جالساً وتشاهد عملاً مسرحياً ينتمي الى هذه التجربة فأجلس مسترخيا منتبها وحاول ان تستوعب ما يدور في فضاء العرض، وأن تتلقاه في ضوء عملية تمثل ذاتي في داخلك، ثم افرز ما انتج من عملية التمثيل الذاتي، وهكذا كلما اشتغلت فكرة جديدة، وفسر كل عنصر على حدة، وفي الوقت نفسه فسر المنظومة بشكلها الكامل بوصفها بنية، عندها تصل الى حقيقتها وستجد دلالاتها ومعناها الحقيقي والمغاير الذي اراد ان يقوله العرض في نهاية الأمر .. وبالعودة إلى موضوع التجريب في ضوء ما تطرقنا إليه في تحليلنا لتجربة مسرح اللاتوقع الحركي القصير، نجد ان التطوير يجب ان يتناغم مع تطور الحياة وتطور تكنولوجيا تواصل الناس فيما بينهم وكما هو معروف ان المسرح هو لغة للتواصل والاتصال وتقريب وجهات النظر لفكرة معينة، فلا بد أن تكون هذه اللغة تنسجم مع تطور وسائل الاتصال بين الناس، “لغة ذكية تخلق متلقياً ذكياً”.


المصدر : مجلة الفنون المسرحية – همام عبد الجبار

 

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *