من وهران ومجوّبي.. أقول لكم/عزيز خيون الجزء 1

منذ الأزل والمسرح فضاء بسعة العالم للقول والفعل، وأثبت تناغما فريدا مع حلم الانسان الأثير في البوح بكل ما يشعر به ويشغله خارج أسوار المحذور والممنوع، أو الفصل بين ما هو فني وأخلاقي، بل سماوات من السماحة وجموح الحرية لذلك أحبه الناس وتشبثوا به ونادوا بضرورة وجوده يتصدى لأشرار المجتمع والفاسدين وينتصر لجبهة الخير والعدل، ما تنصل عن مهمته تلك ولا كل بل جنّد بتصميم عنيد عموم طاقته يناقش المعضلات الكبرى وفي كل حين.
لا جديد فيما ذهبت، فهذا هو المسرح مذ سمعنا وتعرفنا وانشغلنا، كان، يظل، ويبقى، منصة للفائدة والمتعة، للتنوير والتمرد وما فنان المسرح ممثلا، مخرجا، وكاتبا الا برلماني شجاع يتقدم الصفوف يخوض المعارك نائبا عن الناس، يطيح بأصنام التابو، ويفضح المسكوت عنه واذا كانت ثمة من حسنة لبعض التجارب التي خلدها هذا الوسيط الجمالي عبر عصوره المختلفة فلأنها وببساطة تجارب حلقت واقتربت لتلامس جوهر وروح المسرح، ناقشت أغراضه وطموحاته وجنونه الجميل، وعبرت عن أثقل الهموم وأعقد القضايا، مما يقلق ويفزع البشري في هذا الوجود، وبرغم أن هذا الفن النبيل شاغلنا اللحظة وفي كل لحظة قد تهيأت له ظروف ذهبية من أجل أن يكون، وقدر له أن يقطع أشواطا وآمادا طويلة وهو يؤسس ويغادر ما أبدع، ليعيد تصميم بهاء لوحته البانورامية المدهشة في تجلياتها المتجددة، عبر ثقافات وأعراف وثوابت طوتها أمكنة وأزمنة، وفي منعرج رحلته هذه خاض نقاشات ساخنة وقوانين صادمة وظالمة  وتجاوز خطوطا حمراء وزرقاء وصفراء، الا أنه وبرغم كل ذلك ويا للاسف لاتزال بعض الآراء القصيرة والتقديرات العجولة ترّجم منصته المقدسة بحجارة التسطيح والمناورة المفضوحة والتأويل
الاعرج..
وبين اللحظة واللحظة يتم اغتيال حقيقته القائلة ويخر شهيدا أمام عيون الأشهاد بهذه الصورة أو تلك، وفي كل مرة يتعرض لذات الهجمة الشرسة ان هو حاول أن يتخطى أو يتجاوز المرسوم والمعلوم والمحذور والمتعارف، ولكن اذا لم يتصد مسرحنا العراقي لقضايانا الشائكة وكوارثنا النازلة، من نزيف دائم لحرمة دمنا، وابادة جماعية لانساننا وبأبشع الطرق المبتكرة، الى تدمير وتخريب ممنهج لصروحنا الفنية، العلمية، والثقافية والاقتصادية، وسرقة صارخة لأرثنا الحضاري، لكل ما سهر عليه انساننا العراقي، وأوقف لأجله زهور عمره، وشّمر له جميع مفعّلات طاقته، أمام صمت عربي وعالمي مريب!!
أقول اذا لم يناقش مسرحنا في العراق كل التراجيديا التي ذكرت، فبالله عليكم أشيروا عليّ ما هي ضرورته اذن؟ عماذا يتحدث؟ وماذا يقدم؟ وبالتالي ما قيمة المسرح كفن يعتبر – انطلاقا من طبيعته البنيوية – من أهم فنون المواجهة والتشابك والتحريض عبر كل تأريخه الطويل؟.
في مهرجان المسرح العربي، الذي تنظمه الهيئة العربية للمسرح، والتي اختارت مشكورة الجزائر مكانا لانطلاقة دورته الجديدة التي تحمل الرقم 9، والتي توشحت باسم المسرحي الجزائري الشهيد (عز الدين مجوّبي)، الذي اغتالته يد الغدر والظلامية والتخلف ابان العشرية الدموية، عشرية سوداء اجتاحت الجزائر، واستطاعت هذه الجزائر البطلة، أن تخرج منها منتصرة بنضال أبنائها وتوحدهم في جبهة قوية ضد عدو ينفذ سيناريوهات خارجية ليدمر ما شيدته دماء شهداء هذا الشعب المغوار..أقول في هذا المهرجان تعالت صيحات غريبة من هذا الصوت وذاك ، احتجاجا عجولا على ما جاء به العرض المسرحي العراقي المشارك، الذي احتضنه مسرح الشهيد الفنان (عبد القادر علوّله) في مدينة وهران، أقول احتجاجا عجولا، لأن هذه الاصوات لم تنطلق من نافذة الاحتفاء والترّوي، نافذة الفضاء المعرفي المبني على اراء نقدية متخصصة، وأسس علمية رصينة، ودوافع بيضاء، انما هي أصوات قافزة ومتعجلة فعلا، وأصدرت حكما تريد به ذبح كل من ساهم بتقديم هذا العمل العراقي!!
هكذا هي ترجمتي لما سمعت في الندوة الفكرية للعمل المذكور.. يا الله نذبح في عراقنا، ويراد ذبحنا هنا أيضا، كل هذا ونحن في عرس عربي مهيب لأبي الفنون.. المسرح!!
ولا أدري ما هي الجريمة  التي اقترفها العرض المسرحي (يا رب) كتابة علي عبد النبي الزيدي، واخراج شاب في بداية تجربته الواعدة مصطفى الركابي، نهض بأعباء تجسيد الشخصيات الفنانة القديرة سهى سالم، والفنان القدير فلاح ابراهيم، والشابة القادمة زمن الربيعي،.. أم عراقية من هذا الزمن الدموي مفجوعة بفقدان الأبناء، حطبا للحرب ، تتوجه بتكليف من أمهات أخريات عراقيات يشاركنها بالفقدان أيضا في حروب عبثية ، تتوجه الى خالقها تشكوه حالها والأخريات، شكوى هادئة، معاتبة، ملتزمة ومنتمية، دونما ضجيج، شكوى نابعة مما يمر به هذا العراق العربي، هذا العراق المبتلى بالمآسي والأهوال منذ 2003 وحتى لحظة الآن، من حرب وغزو واحتلال وقتل وخطف وتهجير وتخريب وتدمير، وسرقة لخيراته، أمواله، مدخراته، وآثاره.
المصدر/ الصباح
محمد سامي / موقع الخشبة

 

 

 

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *