(وصاية المخرج … وتلقين الناقد !)
حين لا يستوعب مخرج العمل الفني أن للناقد حرية الرأي والتأويل ، تلك كارثة ، أما حين يعتقد أن باستطاعته أن يحدد للناقد ما يراه ، بل ويصل به الأمر لأن يكتب عنه قراءته النقدية ، فتلك طامة كبرى !
هذا أول ما خطر في ذهني حين قرأت رد السيدة نعيمة زيطان على قراءتي النقدية لعرضها (التلفة) الذي قدم في مهرجان المسرح العربي ، وأصاب الكثير من الجمهور بالملل ، كما اتضح ذلك في رد فعل الجمهور الذي بدأ ينسل من القاعة في منتصف العرض ، وكما تأكد في الندوة التطبيقية التي حملت العديد من الآراء السلبية عن العرض .
ما أعرفه ( بديهيًا) ودون الاستعانة بأسماء مسرحية عظيمة لأدعم ما أعرف ، أن الفنان يقدم عمله الفني ، ويترك عملية التأويل للمتلقي/ الناقد . لا أن يفرض وجهة نظره ، أو يشرحها ، كما فعلت زيطان في الندوة التطبيقية للعرض ، حين أخذتنا في رحلة طويلة جدا تطرقت من خلالها لحيثيات العمل ، وظروفه ، وشرح تفاصيل عجز العرض عن إيصالها للجمهور – كما استشفت زيطان من الآراء في الندوة – وربما هذا ما جعل مساعد المخرج يقوم بتوضيح ذلك من خلال تلخيصه للعرض، بدءا بالفكرة ، ثم إشارته لتفاصيل الفصل الأولى والثاني ..إلخ!؟
ويبدو أن زيطان ، توقعت أنني بعد الندوة الطبيقية سأقوم بتغيير وجهة نظري عن العرض ، أو أحوّل قراءتي النقدية لتغطية صحفية ترصد وجهة نظر صناع العمل !؟ لكنها فوجئت بأني – مثل بقية الزملاء الذين شاركوا في التعقيب على العروض الأخرى – نشرت تعقيبي كما جاء في الندوة ، الأمر الذي دعاها للاستمرار في دائرة ( فسر الماء بالماء) . فجاء ردها قامعًا لوجهة النظر الأخرى ، وهي التي تطالب في مسرحيتها بالاستماع للآخر ، جاء ردها مزدحمًا بالشرح والتفسير لتفاصيل عرض مسرحي يفترض أنه قدم وجهة نظره على الخشبة ، لا خارجها !؟
للمرة الأولى أقرأ أن مخرجًا مسرحيًا يرد على رأي (فني) قيل في عمله ، ربما هناك من يرد على الاتهامات الأخلاقية ، أو السياسية ، أما أن يأتي الرد (المشحون) لمجرد أن للمتلقي/الناقد تأويله ، ورؤيته الخاصة ، ولم ير العرض بعين المخرج ، فهذا أمر آخر !
من يقرأ رد زيطان يدرك مدى السطوة التي تريد فرضها على الناقد تحديدًا، عبر وضعه ضمن مسار معين يحجب الرؤية خارج إطارها كمخرجة ، إن نظر من خلال هذا المسار فهو ناقد عظيم ، وإن حاد عنه ، فما يكتبه مجرد من أساسيات النقد !؟ وهذا ما اتضح في تعليقها على ما ذكرته في القراءة النقدية حول (عدم خضوع العرض للبكائية) ، يبدو أن زيطان أعجبت بالملاحظة كونها جاءت في صالح العرض ، فقامت بالتوقف عندها وتكرارها مرة أخرى في مقالها!؟
نظرية (تلقين الناقد) لم تظهر بعد ، وأتمنى ألا تظهر مستقبلا وتكون زيطان هي مؤسستها ، فالحدود والمعطيات التي ينطلق منها المخرج/ الفنان/ المبدع ، تخضع لظروفه ، ورؤاه الخاصة ، الأمر الذي لا يتسق بالضرورة مع معطيات الناقد ، ضمن ما يسمى بآليات الإرسال والإستقبال. أما حين ترغب زيطان بأن تسلب المتلقي حقه في أن يتوقع فتلك حكاية أخرى ، يطول شرحها ، مع التأكيد على أن (أفق التوقع) هنا لا يعني أن يقدم المبدع ما يرغب به المتلقي بلاشك ، فإن قبلت زيطان (الفنانة) أن تفرض وصايتها على المتلقي / الناقد ، لا يمكنني في المقابل أن أفرض وصاية المتلقي/الناقد عليها أو على العمل الفني !؟ فأفق التوقع خاص بالتلقي ولا يفرض وصاية على العملية الإبداعية !؟
أما رأي زيطان بخصوص (التلفزيون) فأعتقد أن هناك لبسًا في قراءتها للملاحظة . فما ذكرته في الورقة النقدية ، وفي الندوة أيضا ، أن العرض بات بحواراته الطويلة ، وإيقاعه المترهل يشبه المشاهد التلفزيونية التي ظلت طريقها للمسرح ، ولا يعني ذلك أنني أطالب بالاستعانة بالشاشة كما فهمت المخرجة أثناء الندوة وعند قراءتها للورقة أيضا! لأنني قرأت العرض ضمن مكوناته ، لا ضمن مكونات أسبغها عليه! اللبس ذاته تكرر في استيعابها لمفهوم لغة الجسد التي كانت مفقودة في العرض ، حيث اعتقدت المخرجة أن وجود الممثل على الخشبة بحد ذاته لغة جسد ، حتى وإن كبل هذا الجسد بحركة محدودة وأداء صوتي ثابت، مع تعاطفي الشديد مع الممثلات اللاتي عرفن بقدراتهن التمثيلية المميزة، لكنهن في هذا العرض – وبناء على تعليمات المخرجة – وقعن رهن الأداء الواقعي الرتيب ، والذي لم يقدمهن بالشكل الذي يتمناه أي ممثل في مهرجان مهم !
أخيرًا ، تبقى أهمية الملاحظات/المقال/القراءة النقدية ، في مدى وصولها للقارئ – اتفق أم اختلف معها – وتبقى كواليس العرض ، وزيارات فريق العمل للسجون لا علاقة لها بما يقدم في العرض المسرحي الذي يراه المتلقي لا ذلك الذي يلقنه له المخرج ! فالنقد المسرحي الذي قرأناه لدى آن أوبرسفيلد وندرسه لطلبتنا في المعهد – لا ذلك الذي تعرفه زيطان – هو الذي يتناول بالقراءة والتحليل للمعطيات المرئية ، المسموعة والأدائية ، لا تلك التي يعتقد المخرج أو يتمنى أن يقدمها لنا !؟
د. سعداء الدعاس
أستاذ النقد في المعهد العالي للفنون المسرحية