مفهوم العنف وتجلياته في عروض المسرح العراقي ــ ظواهر واستشراف / العراق

وتقتضي الضرورة ان العنف بمفهومه واشكاليته لا يرتبط بالفعل المادي والحادث المؤثر فهناك ما يمكن تسميته بالعنف الرمزي ، فالشخصيات المحاصرة والمقموعة والمهمشة والمستلبة والمستغلة والفاقدة لارادتها بفعل قوى غاشمة فإنها شخصيات مقنعة ومن يتأمل تاريخ المسرح العراقي يجد النماذج الكثيرة وتنشطر المعالجات والتاويلات لاستثمار هذهِ الموضوعة.
نجد العنف الرمزي في مسرحيات (المجنون) لكوكول وقدمها سعدي يونس و(الناس والحجارة) لهاني هاني و (سيدرا) لفاضل خليل التي تتخذ من الموت ثيمة محورية لها و (محاولة القبض على الصدفة) لمحسن الشيخ و (الخادمات) لناجي عبد الامير و(الرقيب) لعصام محمد و(الجلادان) لعلي السعدي و (حفلة من اجل 5 حزيران) لجاسم العبودي و (البيك والسايق والمتنبي) لابراهيم جلال و(الاشجار تموت واقفة) لبدري حسون فريد، وفي الثمانينات عقب الحرب البعثية انبثقت تجارب مهمة فيما عُرِفَ بمسرح الحرب وقد انقسمت هذهِ التجارب على محورين : الأول اتخذ الصيغة التعبوية التي كانت جزءاً من التعبئة وأعلام السلطة بينما توغلت التجارب في محورها الآخر باتجاه المسكوت عنه وادانة الحرب بوصفها أعلى أشكال العنف.
وشهد المسرح العراقي وتحديداً مسرحيات الحرب تجارب ناضجة وشكلت ظاهرة متقدمة في رؤاها شكلاً ومضموناً وكان تقديم بعض العروض أشبه بالمغامرة لحساسية وخطورة الظرفية التي قدمت بها وسعت عبر المعالجة الجمالية والفنية لادانة الحرب وبشاعتها، ويمكن ذكر بعض النماذج منها :
(الذي ظل في هذيانه يقظاً) لغانم حميد و (مذكرات رجل ميت) لعصام محمد و(النهضة) لعباس الحربي و(امام البيت) لكاظم نصار و(طقوس النوم والدم) لسامي عبد الحميد و (لو) لعزيز خيون و عواطف نعيم للقيم التي جسدت ابعاداً كثيرة في الاستلاب والقهر والعنف الرمزي.
ووفق فرضية العنف وتجلياته فإن الكثير مما قدم في الجنس الدرامي المؤثر المونودراما يعكس معطيات الشخصية الدرامية التي تعيش احباطاً وارتكاساً داخلياً مع محيطها فهي تعيش في اماكن مهجورة أو مغلقة لتوكيد موضوعة الاستلاب والقهر والعنف السايكولوجي (الرمزي) وبما يمكن ان نسميه بالأماكن المعادية والأماكن الاليفة بحسب تقييم جاستون باشلار للبعد الظاهراتي للمكان .
لقد استطاعت عروض ما بعد الاحتلال ان تقترب من موضوعة العنف وتتوغل في أعماق الحدث وتجسيده بشكل مؤثر ومغاير استثماراً لمساحة الحرية في التناول وغياب الشرطة الفكرية فكانت عروض مثل (حظر تجوال) و (في قلب الحدث) لمهند هادي لإدانة التفجيرات العبثية التي تقوم بها القوى الظلامية وادانة وتعرية الإرهاب . وفي هذين العرضين توافرت عوامل التجسيد والابتكار وابتعاداً عن المباشرة على مستوى توظيف الأنساق البصرية والسمعية والحركية الى جانب الاهتمام بايجاد شكل جمالي والسعي لخلق متعة بصرية ــ ابهارية والتوغل واستثمار روح المفارقة والاثارة ، انهما ادانا العنف وفق اشتغال رؤيوي ولم يلجأ المخرج الى التشخيص والأداء والموروث التقليدي .. ونجد مثل هذهِ التوجهات مع فارق التوظيف في أعمال (نساء في الحرب) لكاظم النصار الذي حاول في هذا العرض ان يستكشف بعداً آخر من أبعاد القهر السياسي والاجتماعي في أعماق نسوة في المنفى، وهيمنة العنف على ذواتهن بكل أشكالهِ.
ونجد مثل هذا الاشتغال في رصد ابعاد الصراع السايكولوجي للعنف في مسرحية (الوردي وغريمه) لعقيل مهدي وإدانة العنف المتأجج بين التنوير والخرافة واعتمد العرض على استثمار العلامة اللسانية والحوار الذهني . وسعى ابراهيم حنون في (الموت والعذراء) و (خريف الجنرالات) و (حروب) الى ادانة تجليات العنف والقهر السياسي وفق اشتغال جمالي واستثمار لسينوغرافيا المشهد البصري لاسيما في (الموت والعذراء)، وسعى مناضل داود الى تناول موضوعة الطائفية بجرأة من خلال توظيف المتن الشكسبيري (روميو وجوليت) ومحاولة سحب النص الى الواقع العراقي وما أفرزته المرحلة القلقة والسوداء عامي 2006 ـــ 2007 من حراك همجي وحرب عمياء بين مكونات الشعب العراقي واستطاع عرض (حلم مسعود) لعواطف نعيم اخراجاً واداء (عزيز خيون) ان يثير الكثير من من الاسئلة لموضوعة التهميش والاستلاب السايكولوجي.
ولم تغب عروض البانتومايم عن تناول موضوعة العنف والقهر بأشكالهِ لاسيما وان طقسية الجسد في مثل هذهِ العروض تتيح لصانعي العرض البحث عن اداءات جسدية كبديل للمنطوق اللساني، وأسهمت سينوغرافيا عرض (حلم في بغداد) في تعميق النسق الجسدي والتعبير عن القهر والاستلاب الذي والاغتراب الذي هيمن على موضوعة العرض بينما سعى عرض (بروفة في جهنم) لهادي المهدي الى اثارة وعي تحريضي .
لقد نجحت العروض التي تصدت لموضوعة العنف لأنها لم تقع في الهتاف والتمركز حول الصراخ التراجيدي بل أنها توغلت في الأعماق السحيقة وتناولت التجليات الاسقاطية وتشظيات العنف بابعادهِ القهرية والاستلابية والاغترابية فإن هذا النمط من المعالجة يتماهى مع موجهات العرض الذي يستثمر سيميائية الصراع ودلالاته وايحاءاته وبما ينتج مناخاً تأويلياً بعيداً عن الواقعية الرثة والفوتوغرافية والتسجيلية المحضة لأن العروض لم ترصد او تقدم لنا صوت الرصاص والانفجارات وعويل الاسعافات بل سعت الى بنية سايكولوجية لتحقيق فرضية المسرح بوصفهِ نتاجاً جمالياً بصرياً وذهنياً وليس مجرد منصة لبيانات احتجاج صاخب.
واستطاعت مونودراما (فيس بوك) لعماد محمد ان تتناول موضوعة التظاهرات باستثمار وسائل التواصل الاجتماعي والثورة الرقمية في تأسيس وعي متمرد ورافض وتناول العرض الذي جسده محمد هاشم ان يثير اسئلة في طقس جديد.
وسعى الكثير من المخرجين من مختلف الاجيال الى استثمار الاجواء التصعيدية لما يعرف بالربيع العربي لكن أغلبها لم يبلور رؤية ناضجة في تناول حدث ينطوي على اشكالية على مستوى التأثير والاجواء والوظيفة لاسيما وان البديل الذي اعقب الدكتاتوريات العربية المعمرة كان عبارة عن اسلاموية وغيبانية سعت الى كهنوية السلطة وانزلقت الى شمولية ترتدي معطف التأسلم والتدين ما ادى الى ان ينقلب الربيع العربي الى خريف اسلاموي لا يمت للاسلام بصلة والمسرح سيتوقف كثيراً للاشتباك مع هذهِ الظاهرة بوصفها احدى تجليات العنف والعنف المضاد.

——————————————————————————-

المصدر : مجلة الفنون المسرحية الموقع الثالث – عباس لطيف – المدى

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *