«مفتش» الروسي نيكولاي غوغول يلجأ إلى باريس… مسرحياً

24c7c7d249c548f4a5a727790e60ee17

تقدّم حالياً على خشبة مسرح «لوسبرنير» في باريس، بعدما كانت قُدّمت ضمن مهرجان «أفينيون»، مسرحية «المفتش العام» للأديب الروسي نيكولاي غوغول. الإخراج من توقيع المخرج المسرحي رونون ريفيير، المعروف أيضاً بصفته ممثلاً، وبالتعاون مع المخرجة إيملين أليكس، وهما اعتمدا ترجمة الأديب بروسبير ميريميه لنص المسرحية، وميريميه كان يتقن الروسية وهو من أوائل الذين نقلوا نصوص الأدب الروسي إلى الفرنسية في القرن التاسع عشر.

كتب نيكولاي غوغول مسرحيته «المفتش العام» عام 1836، ومنذ ذلك التاريخ حققت هذه المسرحية نجاحاً كبيراً في روسيا وخارجها، ولم تفقد بريقها إلى اليوم بسبب حداثتها وحيوية حواراتها وتوجهاتها الإنسانية العميقة. كتب غوغول حولها قائلاً: «أردت أن أجمع فيها، في حيّز واحد، كل ما كان يطالعني في روسيا من قبح وكل ما كان يمارس فيها من جور وظلم».

قدمت المسرحية في فرنسا في القرن العشرين في أعرق المسارح الباريسية ومنها «الكوميدي فرنسيز»، وتمّ الاعتماد على مخرجين معروفين ومنهم أنطوان فيتيز. وحتى الآن، لا تزال المسرحية قادرة على استقطاب جمهور مسرحي مثقف يشاهدها بمتعة ويتعرف فيها على الكثير من القضايا المعاصرة الحاضرة بقوة في هذا الزمن، وفي مقدمها استشراء الفساد الإداري والرشوة والنفاق الاجتماعي.

تروي المسرحية قصة الشاب كليستاكوف – يقوم بأداء دوره المخرج رونون ريفيير نفسه – الذي يترك العاصمة سان بطرسبورغ برفقة خادمه، بعدما فقد ماله، ويقيم في فندق بائس في مدينة هامشية منسية في الريف الروسي. كليستاكوف رجل أنيق يهتمّ بمظهره ويتقن الخوض في الحوارات الثقافية، لكنه بدّد ماله في اللهو في العاصمة ولم يعد قادراً حتى على تسديد أيجار الفندق ووجبات الطعام. لكن الأقدار تنقذه بالصدفة من هذا الوضع المشؤوم إذ يستلم أهل المدينة رسالة تفيد بأنّ مفتشاً عاماً أرسلته الحكومة الروسية وهو في طريقه إليهم. ويعتقد حاكم المدينة مع مساعديه وابنته أنّ هذا الشاب الغريب والأنيق الذي يقيم في الفندق هو المفتش العام وأنه اختار التخفي وهذا الأسلوب المتواري ليتمكن من القيام بعمله والتحقيق في أمور المدينة الاجتماعية والصحية بحرّية ومن دون أي ضغوط. ويسعى حاكم المدينة مع أعوانه للتستر على عيوب مدينتهم حيث يستشري الفساد من خلال التودّد لذلك الشاب في الفندق كاشفين عن جانب كبير من انتهازيتهم ووصوليتهم، متذلّلين له، باذلين كل ما في وسعهم لإرضائه بالمال ورشوته بمختلف الطرق حتى لا ينفضح سرّهم ولكي يغضّ الطرف عن فسادهم.

وبالفعل، يلقى الشاب كليستاكوف عناية لم يكن أبداً يحلم بها، فيجمع مبلغاً كبيراً من المال والهدايا ويقرر قبل انكشاف أمره الهرب مع خادمه. ولكن بعد فراره تصل رسالة أخرى تبلغ حاكم المدينة بوصول المفتش العام، فيدرك الحاكم مع معاونيه وابنته أنهم وقعوا ضحية خديعة كشفت مدى فسادهم ونهبهم للمال العام وتغليبهم مصالحهم الفردية على حساب مدينتهم.

نجح فريق المسرحية في نقل أجواء غوغول بسخريتها السوداء وتعريتها للنفس البشرية الضعيفة والانتهازية في آن، فكان أداء الممثلين رائعاً وهم تميزوا بعفويتهم وحرفيتهم العالية. وممّا ساهم أيضاً في تألّقهم الخيارات الجمالية التي اعتمدت في الإخراج وأبرزها التقشف في الأثاث الذي طالعنا على المسرح والتركيز على اللونين الأسود والأبيض للأزياء، باستثناء ابنة حاكم المدينة التي أطلّت بفستان أخضر ثمّ أحمر في القسم الأخير، وذلك سعياً لغواية الشاب كليستاكوف وظناً منها بأنه المفتش العام والعريس الذي طالما حلمت به والذي سيحقق طموحاتها الاجتماعية وينقلها من الريف والعزلة إلى المدينة والحياة الباذخة. أخيراً لا بد من الإشارة إلى الحضور الجميل لعازف البيانو على الخشبة، وقد رافق الممثلين منذ اللحظة الأولى حتى النهاية، وهذا ما أضفى حيوية على العرض فتقاطعت الموسيقى مع تحولات النص المسرحي، وجاء اللحن الأخير ليعلن لحظة الختام، وتَرافقَ مع التفات العازف إلى المشاهدين بعد أن كان يدير لهم ظهره طيلة العرض.

كم تبدو مسرحية غوغول هذه معبّرة لمن يأتي مثلنا من العالم العربي الغارق في الفساد والرشوة وانحلال القيم، في الظلم والفقر واللامساواة وبالاستهتار بالقيم وحياة الأفراد، وكلّها من الأسباب التي دفعَت نحو التطرّف ومواجهة العنف بالعنف، وبلوغ هذه الفوضى القاتلة التي تهدّد مجتمعات ودولاً بأكملها.

 

أوراس زيباوي

http://alhayat.com/

 

 

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *