مسرح كائن أم لا مسرح/ جبار صبري

 

المصدر/الصباح / نشر محمد سامي موقع الخشبة

 حين جاءت اللحظة التي يغادر فيها الفن عامة والمسرح خاصة مفهوم المعيار والضبط المفاهيمي لعملية انتاج العرض المسرحي خرج المسرح من معطف او لبوس الحداثة وصار يتقلّب تحت وطأة رياح ما بعدها ، ولهذه الاخيرة قدرتها في تدمير الثوابت كلها والبدء بحراك جديد ينقطع نوعا ما عن الكثير مما اعتاد عليه الفن كأنموذج للتعبير، يمتلك مقومات محددة.

يبدأ مشوار الفن بما هو كائن اليوم من حيث ابتداء مشوار التواصل بأوسع حالاته وتوظيف الصورة بغض النظر عن كل مرجعياتها المختبئة وراءها، بل انها تهمل تلك المرجعيات ، والأكثر من ذلك انها تتقصد تدميرها وتقويضها على وفق اسلوب يتبنى اللعب الحر وفرض سلطة الاختلاف والنظر الى ما يحدث بوصفه آثار احداث تقرأ من وجوه عديدة، نافيا عن نفسه اي انسجام او وحدة في الاسلوب والبناء بل وحتى في المضامين، الامر الذي يجعل الفن المسرحي قائما على : التشظي والتنافر ورفض اي تكاملية في العرض من شأنها ان توحد الشكل او توحد
المعنى .ان ما يحدث في المسرحي انما يحدث بوصفه طاقة خرجت عن كل تنظيم ممكن : طاقة تتفجر اشكالها بسرعة مثلما تتفجر مضامينها من دون ان نبلغ حدا معينا، بل ان ما يقصد من ذلك التفجير هو التيه في اللاحد واللاقصد ولا يتبقى فينا كجمهور الا شعرية تأويلاتنا، حسبما نريد لا حسبما يريد العرض . آنذاك يغيب التوجيه وتندثر الاجابات الصريحة ولا يتبقى الا مجموعة من الاسئلة التي تثير فينا أغبرة الشك بما يحدث من جهة وأغبرة المعاني التي تتناسل في مخيالنا بوصفها آثار معان منقلبة ومتغايرة على نفسها من جهة
ثانية .
لطالما ننظر الى انفسنا اننا ازاء واقع لا واقع فيه بل هو وجودنا الهستيري المفترض داخل الواقع المعتم والمتلاشي والمتشظي والذي لا ينفك ان يؤدي على نفسه قابلية التفكيك والتدمير واستمرار تغييب الضبط والمعنى المنسجم، لطالما صرنا في العالم الانطولوجي الخارج عن مدار ممكنات عقولنا بل صرنا تحت ممكنات لعبة ولهو الجنون فينا ، وهذا ما ينعكس على شكل انموذجات من الهذيانات النفسية والهذاءات العقلية التي نسميها العروض المسرحية وهي صورتنا في الفن عموما .. وهكذا سنكون مجرد صور معقدة واحيانا مجردة تمارس علينا نوعا من الاستغراق الذهني لتصدير ذواتنا على حساب الموضوع .
هكذا ايضا نضطر في اعمالنا المسرحية من حيث نرغب او لا نرغب للعمل على كسر المألوف و التجاوز المستمر على كل ما هو سائد وضرب ما هو تقليدي و تهديم كل نسق بلغ معيارا ذات مرة ولا ضالة لنا الا ضالة الابتكار والتجريب ، وهذه ميزة تفرض في كل عمل فني مجاله المسرح تحديات صعبة وممارسة اداء فني في مجهولات الابتكار والتجاوز والعمل على تقويض المفاهيم باستمرار وبلا توقف . بل تفجير تلك المفاهيم من داخلها وتخريب صورتها وتشويه منظرها بقدر يتساوق مع تشويه مضمونها .
ليس غريبا هنا الخروج عن أية قاعدة إجناسية ممكن ان تحدد العرض اسلوبا او صفة ، فلعبة العرض التي انفتحت على : الكولاج واستخدام تقنيات السينما والداتاشو والجسد والصورة والسرد اللامنطقي والرقص والاستعراض والسيرك والتسلية وتدفق التشظيات في الافعال والافكار وغياب الوحدة الموضوعية التي من شأنها ان تمسك الجنس الدرامي وتضبط صفته او اسلوبه .
بل الأكثر من ذلك يتجرأ الفن الكائن في يومنا هذا وهو الممكن اللاعب في مسار الوعي على فرض اطروحاته المتماهية في :
1 – التركيب والتعقيد
2 – العرض بشفرات مزدوجة
3 – التورية  والسخرية
4 – الغموض
5 – التباس المعنى وتضليل القصد
6 – التناقض
7 – الانزياح او قلب مبدأ الترتيب
8 – استرجاع الماضي كتهشيم للسرد
9 – الغرائبية
10 – شعرنة الخطاب
اذن ما يمكن قوله الان ان الفن الكائن والذي يشكل ممكنات اشتغاله قد وصل الى لحظة أقصى فيها العقل من ميدان الحضور واعتمد على الحس بشكل أشد في طرح نفسه . الامر الذي أفقد العرض المسرحي من كل قاعدة او معيار وصار خليطا من اجناس وتضاربات في الصور الحسية التي لا تركن الى ضبط معرفي او قصدي محدد . بل ان ولوجه في تشتيت المعنى وتقويضه وعرض هذيان من الصور التي تؤكد أمحاء المرجع والمعنى منها يعد تأكيدا صريحا للعبة تفكيك العرض وامتناعه عن الضبط والعقلنة والإجناسوية.
هي لحظة التفكك الاجتماعي وانهيار القيم . لحظة تفارق بين الواقع والانسان . لحظة لا تستقر عند سرد ما او فكرة ما . وهي اللحظة التي تدعو الى المحلي والهامشي وتعزيز الهويات الصغيرة وفرض السلطة الحسية المسطحة بل وفرض الآنية التي لا يبقى ازاءها الحدث او الفعل الدرامي الا عابرا يدمر نفسه لمجرد ظهوره ويكرر ذلك بلذة ثم يهدم ذلك مرة اخرى وبلذة أشد .. وهكذا لا وجود الا للحظة يتزمّن فيها التفكيك والتدمير مع ما يتمظهر به العرض  .
اذن المسرح الكائن يتميز بأنه لا مسرح والدراما الكائنة تبدو اسرار ممكناتها انها بلا دراما : لا استقرار في الفكرة ، لا استقرار في السرد ، لا عمق يتجلى، بل هي مجتمعات تألف الاسطح والهوامش الساذجة،  لا لغة تفهم بقدر ما يوفره لنا اللسان من لغط يتماثل مع ذات الشخصية وحسب . نفتقد  الجدية . نفتقد الحل العقلاني . نفتقد الحد الذي يفصل بين الصواب والخطأ او بين الحقيقة والخيال .  ليس هناك من شيء نتلمس وجوده في العرض اكثر من لهو وضيع ..
هو المسرح الذي لا مسرح يجنس به بقدر ما يكون هكذا :
• لعبة صورية تتخلى عن كل مرجعياتها ومعانيها بلا عقلانية .
• ترميزات مزدوجة تزيد من قابلية التعقيد بمثل ما تزيد من قابلية القراءة والتأويل.
• استخدام مفرط في الخلط بين الاجناس الاخرى
• اعتماد الحسية المسطحة واستخدام الاشكال المفرغة من معانيها للتعبير .
• اللعب بالهوامش كأساس لتبيان الافعال والاحداث .
• يعتمد التناقض والتورية والمجاز ويلغي التراتب والبساطة والوحدة .
• التدمير لكل المفاهيم السابقة باستمرار .
• الارتجال .
• الطقسية .

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *