مسرح عبث بتوقيت الراهن العراقي /الكاتب:د.كــريــم شــغــيــدل الاجزء الثاني

المصدر/الصباح/ نشر محمد سامي موقع الخشبة

{وقت ضايع} لتحرير الأسدي

إن ترجمة العلامة النصية إلى علامة بصرية تحتاج إلى ذكاء بصري ميداني في احتساب مساحات الفضاء، فعمد المخرج إلى تحديد مساحة ضوئية للعرض، برسم كواليس وهمية من الظلام بعد كواليس المسرح، كما لو أنه رسم مسرحاً بحدود ضوئية في منتصف المسرح ليوازن بصرياً بين العلامات الموظفة وحجم الفضاء، وقد شكلت الإضاءة التي رسمت خطوطها ومساحاتها بدقة معلماً جمالية ودلالياً لتعميق مشهدية العرض، من خلال تحولاتها الصورية، فهي طرقات متقاطعة، ومتاهة، ورقعة شطرنج وغير ذلك، أي لم تعد مجرد بقع لعزل الممثلين أو التركيز المشهدي، وإنما هي صور لبيئة مكانية ترتسم على أرضية المسرح، ومنذ المشهد الأول وظف العرض تقنية الانعكاس الصوري، فقد ظهر الممثلان نائمين بعلامة حركية دالة على الانتماء المذهبي بالإحالة إلى وضعية الوقوف في الصلاة، ثم وظفت مع الشخص الثالث لإظهار ملامح التعبير الانفعالي، وهنا نتساءل: هل أن الشخص الثالث الذي أريد به ان يشكل عنصر تفسير أو إيهاما أو تقاطعا صوريا أو فعلا دلاليا أو حركيا أو توازنا إيقاعيا قد حقق وظيفته كعنصر ضروري؟ ربما كانت هناك ضرورة في بعض المشاهد لكنها ليست ضرورة ملحة، حتى الأغنية التي أداها تعبيرياً بصوت خارجي بدت طارئة على مجريات العرض، على الرغم لمحة التحول الصوري الدلالي فيها، إذ يتحول المايكرفون إلى بندقية، وقد وظفه في المشهد الأخير من خلال علامتي النجادة والحقيبة التي تتبع الزوج بعد قراره الأخير، فكان هذا المشهد ومشهد الغناء أهم توظيفين للشخص الثالث الذي يشغل مساحة داخل العرض دون أن يكون مشتركاً أو مؤثراً في أحداثه، ربما أراد المخرج منه أن يكون عنصر ربط بين آدم المفترض وآدم الذي هو كناية عن الإنسان الفاقد للذاكرة، فكان تردده أشبه بالمعادل الموضوعي بين الرغبة في ارتكاب الخطيئة وتجنب العقاب، وربما حقق من خلاله صورة موازية للحدث، وكان المتوقع أن يرمز لإبليس كمحرض على الخطيئة، الثيمة التي تجاهلها العرض.

أما الأداء فنحن أمام ممثلَين متمرسَين، يقفان بثبات على تجربة احترافية، فكانا لاعبين ماهرين متمكنين من أدواتهما الأدائية، ينتقلان بين التجسيد والتعبير باسترخاء صوتي وجسدي وانفعالي وحركي مدهش، كانت لدى الفنان رائد محسن انفلاتات لكسر النمطية، ينحاز بها إلى الأداء التهكمي وهو الملمح الأهم في هذا العرض والأكثر ملاءمة للامألوفيته، وكانت الفنانة آسيا كمال أكثر حرصاً على تجسيد جدية الشخصية بميلها إلى الخزين التراجيدي الانفعالي الذي انطوت عليه في المنطوق النصي، لكن بصورة عامة تمكنا كثنائي من ملء فضاء العرض والإمساك بإيقاعه، على الرغم من ظهور بعض التعب الخارجي الذي تفادياه بخبرة، وكان محمد بدر مؤدياً في حدود ما مرسوم له من مساحة حركية وتعبيرية، لم تظهر ربما مواهبه الحقيقية، لكنه كان داخل نظام العرض بلا زوائد تعوضه عن الصمت أو محدودية الدور.
بعض الملاحظات التي وردت لا تقلل من شأن هذا العرض المهم ومساحة الاجتهاد في كل مكوناته وعناصره نصاً ورؤية إخراجية وأداءً تمثيلياً وتأثيثاً للفضاء وتوظيفاً للعلامة والإضاءة والمشهدية الخلاقة، فهناك رسالة فنية لا تفصل الخطاب البصري عن السمعي وتتخذ من البساطة التعبيرية منهجاً إخراجياً، ورسالة أخلاقية تدين الحروب ومختلف أشكال العنف وتحرض على البحث عن خلاص إنساني من اشتباكات الواقع وصراعاته وتراكمات الماضي ومآسيه، ويمكننا القول إن العرض يمكن تأطيره كمسرح عبث بتوقيت الواقع العراقي الراهن.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *