مسرح عالمي : مشاكل الراهن في مسرحية ‘الوساطة’ تتناوب بين هزل وجد

من بين المسرحيات المسلّية “الوساطة” للفرنسية كلووي لامبير التي تعرض الآن في مسرح الجيب بمونبرناس، أحد الأحياء الفنية التاريخية بباريس، رغم أنها تتناول موضوعا أبعد ما يكون عن التسلية، وهو اختيار مَن يرعى الأطفال عند الطلاق، ولكن المؤلفة استطاعت أن تقدمه في شكل يجمع بين الهزل والجد، لتطرح القضية من عدة زوايا تجعل المتزوجين يفكرون أكثر من مرة قبل الإقدام على الخطوة الحرجة.

عرفنا كلووي لامبير (المولودة عام 1976 بمرسيليا) ممثلة تقمصت أدورا في عدة مسرحيات لكبار المؤلفين كألفريد دو موسيه وماريفو وأوسكار وايلد وشكسبير، توجتها بجائزة سوزان بيانكيتي عن دورها في مسرحية “الآخر” لفلوريان زيلر.

وعرفناها أيضا مخرجة لنصوص هامة مثل “الغرب المنفرد” للأيرلندي مارتن ماكدوناف و”الرابط” للفرنسية أماندا ستير، وبعد أن قدمت على أمواج فرنسا الثقافية، إعدادا وتمثيلا، مراسلات أناييس نن وهنري ميلر، ها هي تقترح “الوساطة”، وهو نص من تأليفها وإخراج جوليان بواسولييه، وتقوم فيه أيضا بدور “أنّا” الزوجة والأم.

الحل في الحوار

اختارت لامبير ثيمة الوساطة العائلية لتبني مسرحية تستكشف مواضيع جدية بأسلوب مفعم بالنشاط، حيث الشخوص مضخمة الملامح، والنسق سريع، والتقلبات حاضرة عند كل منعطف، والفكاهة تتناوب بين اللين والشدة، وتجعل المتفرج موزعا بين المرح والتفكير.

على الخشبة أربعة أفراد يشخصون بأنظارهم إلى أرخميدس، طفل في سن الثالثة، هو مدار المسرحية دون أن يكون حاضرا سوى من خلال كرسيّ شاغر يرمز إليه، ولوح في الخلفية كتب عليه اسمه، وكأنه جعل كحدّ فاصل بين الأب من جهة والأم من جهة ثانية، وفيما تتولى وسيطتان الحديث

باسمه، والدفاع عن مصلحته وطيب عيشه، يكشف الوالدان، رغم إلحاحهما على راحة ابنيهما، عن مدى إحساسهما بالضيق وعدم الأمان.

بيير، والد الطفل، يبدو أكثر الأربعة غلوّا، وأقلهم واقعية، فهو رجل صبيانيّ، زير نساء، وباحث مهووس بالديناصورات، ولا يقدّم صورة أب مثالي تطمئن إليه الأسرة، ولو أنه يضفي على المسرحية طابعها الهزلي، بفضل كلامه المنمق، وتعاليه المتكلف، وحركاته التي يحرص أن تجري بحسبان.

أما أنّا، طليقته وأمّ ولده، فلها هي أيضا بُعد عبثي، حيث تبدو في الظاهر أمّا رؤوما تحبو ابنها من العطف ما يجعلها تدافع عن مصلحته بشراسة، ولكنّ عواطفها النبيلة تلك تتكشف شيئا فشيئا عن شخصية امرأة تريد أن تتحكم في كل شيء، ما يترك انطباعا بأننا لا يمكن أن نثق في نزاهتها.

وبما أن الوساطة ناجمة عن خلاف، تبدو الأنفس حامية ومرتبكة، ويكثر التنقل على الخشبة للدلالة على حدة الخلاف بين المواقف، ومدى الأنانية التي تسيطر على هذا الطرف أو ذاك، إلى حين تدخل وسيطة رصينة تؤمن بأن النزاع يمكن أن يُحلّ عن طريق التحاور والإقناع.

الديكور في المسرحية ظل ثابتا لا يتغير، لكن الشخصيات تتطور وتنتهي إلى التخلص من الحزن المشوب باليأس والغضب الحانق

ولئن استعصى على أنّا وبيير أن يتفاهما، فليسمع كلّ منهما الآخر، لأنهما جاءا إلى هذه الشقة المؤجرة من أجل ذلك، ولكنهما لا يتوجهان إلى بعضهما بعضا، بل يصرّان على المرور عبر شخص آخر، ولتقريب وجهتي النظر، لا بدّ للوساطة أن تنجح، وذلك في الظاهر عصيّ المنال، فكلاهما يحمل ضغينة على الطرف المقابل. أنّا تحقد على زوجها لأنه خانها ثم هجرها ولم يكمل الرضيع شهره السادس، ووجدت صعوبة في تحمل أعباء تربيته بمفردها.

أما بيير، فيحقد عليها لأنه يحس أنها تضطهده وتخنق أنفاسه، وإذا كانت حياته تحوم حول الديناصورات، فهو يحلم بأن يشاركه ابنه فيها.

ورغم ذلك لا بدّ للوساطة أن تنجح، لأن للزوجين ثلاث حصص (هي فصول المسرحية الثلاثة) كي يتفقا على حلّ يقترحانه على القاضي، غير أن الوسيطتين مختلفتان هما أيضا، وتجدان صعوبة في الالتقاء حول حلّ مُرْضٍ.

وإزاء هذه الشخصيات، لا يملك المتفرج إلاّ أن ينساق مع هذا الجانب أو ذاك، فالوساطة، رغم ما يراد لها من حياد، تقيم الدليل على أن من الصعب في مثل هذه المسائل أن يحتفظ المرء بموضوعيته.

جدل عنيف

إن ظل الديكور ثابتا لا يتغير، فإن الشخصيات تتطور وتنتهي إلى التخلص من الحزن المشوب باليأس والغضب الحانق، أما المتفرج، فيخرج من هذه “الوساطة” مفرغا، ولكن مرتاح البال، وكأن الأبطال حملوا وزره في حل مشكلة قد يكون عاشها أو بصدد التخبط في شراكها.

من وضعية مؤلمة، استطاعت كلووي لامبير أن تستخلص كوميديا أخلاقية حديثة، تحيل على تطور المجتمع المعاصر، وبين التوتر الدرامي للجدل الصاخب إلى حدّ العنف، وضغينة المتحاورين ضد بعضهم البعض، تتوسل المسرحية بالطرافة والانفعالات التي تكشف عن أشياء حميمة من جهة، وعن عدم الإحساس بالأمان بين الأزواج من جهة أخرى، لأن كل شيء قابل للقطيعة في أي لحظة، بسبب تضخم أنا الزوج أو الزوجة أو كليهما.

هذه المسرحية الخفيفة تسلّينا، وتحملنا أيضا على التفكير، وسلوك أبطالها يبدو لنا مضحكا، لأننا ننظر إليه من الخارج، ولكن لو نظرنا إلى أنفسنا في المرآة في مثل تلك المواقف، لبدونا نحن أنفسنا مثيرين للضحك، بسبب تعصبنا في اتخاذ مواقف، لا نريد أن نتراجع عنها ولو كنّا مخطئين.

——————————————————————
المصدر :مجلة الفنون المسرحية –  أبو بكر العيادي – العرب

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *