مسرحية يا رب : المقدس بين سلطتي الدين والعقل – العراق

تنتمي فكرة المقدس إلى ذلك الصراع الممتد عبر العصور بين الإنسان ومخاوفه التي كان يختار مواجهتها عن طريق تحويلها إلى رسومات على جدران الكهوف في محاولة للسيطرة عليها ، أو عبر إنتاج طقوس دينية يؤكد فيها على خضوعه للغيبي بوصفه مقدساً ، الامر الذي دفع به في مراحل لاحقة إلى إنتاج مقدسه المادي في محاولة منه للإفادة من قدرات ذلك المقدس تحت مسمى (الطوطم) الذي إكتسب هو الآخر بمرور الزمن صفة (التابو/ المحرم)، إذ بدا واضحاً أن الإنسان قد تحول بسببه من مواجهة المخاوف إلى إنتاجها ، ويعود ذلك إلى تنوع اشكال ومضامين (التابو) الذي بات مقدساً ، مما دفع بالإنسان إلى البحث عن معتقدات وطقوس وشعائر تسهم في إضفاء تلك القدسية وتعميقها ، وقد خلص من ذلك كله إلى إنتاج فكرة الأديان التي بدا فيها الإنسان خاضعاً لسلطة الدين الغيبي ، ويعود ذلك إلى أن فكرة الخضوع قد تجذرت في العقل البشري ، وقد أفاد منها على نحو خاص أولئك الذين يعتقدون “أن الله لم يهدِ سواهم” بحسب قول (أبن سينا) .
 
وقد افرزت هيمنة السلطة الدينية ثقافة مضادة إكتسبت مشروعيتها من المجتمعات الإنسانية نفسها ، الامر الذي دفع بها إلى إنتاج مشروع الحداثة التنويري والثورة على تلك الثوابت الدينية التي تحول المقدس فيها إلى (تابو) لايملك الإنسان القدرة على مواجهته من دون ان يكون خاضعاً لمنظومة معقدة من الطقوس التي أسهمت في تحويل المقدس إلى سلطة ، بات من الضروي إيجاد الحلول العقلية في مواجهتها بدلاً من الركون إلى ماتقدمه السلطة الدينية من مقترحات طقوسية تسهم في تعزيز سلطتها على المجتمع.
 
ولم يكن فن المسرح بمعزل عن المشروع الفكري الذي انتجته الحداثة ، بل على العكس من ذلك إذ يعد ركيزة أساسية في ترجمة أفكار الحداثة وتحويلها إلى سلوك اجتماعي يؤمن بحرية العقل وقدرته على الجدل .
 
موقف عقلي
 
وتأتي مسرحية (يارب ) تأليف (علي عبد النبي الزيدي)، إخراج (مصطفى الركابي)، تمثيل (فلاح إبراهيم ، سهى سالم ، زمن الربيعي) ، والتي عرضت مؤخراً على قاعة المسرح الوطني في بغداد ، في حدود تلك الإشتغالات التي إختار فيها المؤلف التعاطي مع المقدس بوصفه موقفاً عقلياً.
 
المقدس في النص الدرامي :
 
تعد مرجعيات المقدس في النص المسرحي العراقي واحدة من الفرضيات الدرامية التي افاد منها عدد من كتاب المسرح في العقد الماضي ، وقد تنوعت تلك الإشتغالات التي إشتمل بعضها على توظيف المقدس الذي إرتبط ببعض الشخوص الدينية كما في شخصية (الامام الحسين عليه السلام) وغيرها ، اما البعض الآخر فقد إختار الركون إلى توظيف المضامين الطقوسية التي لا تكون حاضرة على المستوى المادي ، وقد بدا ذلك واضحاً في نصوص الكاتب (فلاح شاكر ) وتأتي مسرحيته (في أعالي الحب) بوصفها مثالاً واضحاً على توظيف المقدس الذي يتكشف على نحو واضح في شخصية (الجني) بما فيه من مرجعيات في الوعي الجمعي، أو في مسرحيته ( اكتب بإسم ربك) التي يتجسد فيها المقدس على نحو أساس في العلاقة بين الخالق والمخلوق الذي يسعى لطلب الشفاعة .وقد إختار المؤلف(علي عبد النبي الزيدي) التعاطي مع فكرة المقدس التي قد تبدو للوهلة الأولى عاطفية ، بوصفها تعبيراً عن سلوك إجتماعي تركن إليه المجتمعات التي تتعرض للعديد من الإنتهاكات التي يقف الإنسان عاجزاً أمامها، ولا يمتلك القدرة على مواجهتها ، الأمر الذي دفع به إلى طلب الشفاعة والرحمة من المقدس بوصفه سلطة غيبية تمتلك القدرة على تخليصه من اوجاعه المزمنة ، وقد تحولت تلك المظاهر الإجتماعية إلى طقوس جماعية تمارس في الأماكن المقدسة واكتسبت مضامين عاطفية واساليب تعبيرية تعود إلى البيئة الإجتماعية التي تنتمي إليها، وتبدو فرضيات النص متقاربة مع ماذهب إليه (فلاح شاكر) في نصوصه السابقة ، إلا ان المؤلف أختار تهشيم العلاقة بين (الخالق / المخلوق) التي كانت مبنية على طلب الطاعة ، والعمل على تأسيس علاقة جدلية قائمة على مبدأ الإحتجاج على (الله)، وهي فكرة إكتسبت أهميتها عن طريق بناء صراع درامي بين المادي (الأم) وما تحمله من أحزان واوجاع متراكمة تمثلت بفقدها لأولادها من جهة وبوصفها رسولاً مفاوضاً بالنيابة عن امهات البلاد اللواتي فقدن ابنائهن في حروب وقتل وتهجير طائفي وعرقي لا ذنب لهم فيها من جهة اخرى ، الامر الذي دفع بهن إلى إرسال (الأم) الأكثر فجيعة لتكون هي المفاوض ، أما الطرف الآخر والمتمثل بالغيبي (الله) فقد بدا واضحاً ان المؤلف لم يكن قادراً على تجسيد ذلك الصراع على نحو متكافئ ، الأمر الذي دفع به إلى إيجاد بديل موضوعي ينسجم مع فكرة التفويض التي إعتمدها مع (الامهات) ، لذلك إختار أن يكون النبي (موسى) طرف التفاوض الآخر الذي أرسله (الله) لمعرفة أسباب الإحتجاج، وقد إستطاع المؤلف بذلك الخلاص من فكرة غير قابلة للتجسيد إذا ما أراد الركون إلى تجسيد شخصية (الله) ، ويحيلنا ذلك إلى نصوص الكاتب الإغريقي (يوربيدس) الذي أفاد من المقدس المتمثل (بالآلهة اليونانية) وعمل على توظيفها في النص الدرامي ، وذلك عن طريق إدخال الآلهة في المشاهد الافتتاحية حتى يكتسب بذلك شرعية العرض المسرحي ذو الطابع الديني ، وما ان تغادر الآلهة المسرح حتى ينتفي المقدس من النص الدرامي متحولاً إلى معالجة القضايا الاجتماعية ، ويأتي نص (الزيدي) على نحو محايث لما ذهب إليه (يوربيديس) وذلك عن طريق تهشيم فكرة المقدس المتمثل بالنبي (موسى ) الذي بدا عاجزاً أمام (الأم) الأم :من أرسلك ؟
 
موسى :الله تعالى !
 
الأم : الله ؟ وتتفاوض معي ؟ ولكنني لم أطلب نبيا .. أريد الله – فقط – أن يسمع طلبات الأمهات ، وأنا مخولةٌ منهن .. هذا كلُّ شيء .
 
ولم يركن المؤلف إلى فكرة المقدس، بل راح يعمل على تهشيم الفكرة الأساسية التي إتكأ النص الدرامي عليها ، وذلك عن طريق تحويل المقدس إلى سلطة ، إذ بدا واضحاً أن المؤلف إختار المزاوجة بين (المقدس /الله) و (المقدس/ النبي موسى) و (المقدس/ السلطة) التي يتكشف بعضها عن تلك السلطة التي يقع على عاتقها حماية الأفراد والجماعات الذين تفرض السيطرة عليهم ، وقد جاءت تلك السلطة في مواضع أخرى للتعبير عن (السلطة الدينية) الحاكمة للبلاد ، والتي أفادت من قدرتها على توظيف المقدس في الهيمنة على المجتمع ، وبذلك فإن (المقدس/ الله) وإن كان حاضراً بوصفه خالق للسماء والأرض ، إلا أن طلب الإحتجاج لم يكن موجهاً إليه ، بل هو إحتجاج (الام) على (السلطة) وممارساتها التي تستغل (المقدس) في إنتاج الصراعات الدينية والطائفية والتي أسهمت في فجيعة الامهات، وعلى الرغم من بناء النص الذي إحتكم على فكرة جدلية ، إلا ان المؤلف ظل محكوماً لتلك الفكرة على نحو افقي ، من دون العمل على تطوير البنية المشهدية على نحو عامودي ، الامر الذي بدا فيه المؤلف منساقاً وراء اللغة والفكرة التي تكشفت في المشهد الاول عبر مونولوج (الام) ، بمعنى آخر فإن بناء الشخصيات ظل على نحو افقي من دون ان تمتلك قدرة على التحول ، الأمر الذي بدت معه الشخوص نمطية غير قادرة على إنتاج دلالات تسهم في صياغة الصراع الذي ظل على نحو أحادي متمثلاً بالأم العاجزة على تغيير مصيرها أمام النبي الذي ظهر عاجزاً هو الآخر عن تغيير مصيره ، وقد بدا واضحاً ان المؤلف تنبه في المشهد الاخير إلى ذلك وعمل على خلخلة الصراع عبر خلق فرضية المفاضلة بين جنة النبي التي عاش فيها ، وبين البقاء مع الأم التي تصارع السلطة من اجل ان توقف القتل، وقد ركن المؤلف إلى المزاوجة بين الإختيار العقلي والعاطفي ، ذلك أن نصرة المظلوم وتحدي السلطة المهيمنة على المجتمع يرتبط بالقدرة على التفكير العقلي ، كما ان الرضوخ لطلبات (الأم/ الأنثى) والعيش معها يعزز من قدرة الإختيار العاطفي ، إذ إعتمد المؤلف فيه على ثنائية (الذكر/ آدم ، الأنثى/ حواء) الذين خالفا أمر (المقدس/ الله) وطردا من الجنة ونعيمها ، وهي ثنائية وإن تأسست على معصية الخالق، إلا انها تسببت في تكوين البشرية، فضلا عن أن المؤلف عمل على إنتاج لغة درامية أفادت من (التراجيكوميديا) بوصفها إسلوباً للتعبير عن الحالة التي تتعرض الأمهات لها ، وذلك عن طريق توظيف بعض المفردات اللغوية التي بدت حاضرة في المجتمع ، ولاسيما تلك التي يتم تداولها عبر القنوات الفضائية بوصفها مفردات تعبيرية دالة على حالة الإضطراب والفوضى التي تصدرها الطبقة السياسية داخل البرلمان وما يرافقها من إصطلاحات، منها (عدم إكتمال النصاب، جمع التواقيع ،المظاهرات، العصيان المدني ، وغيرها) .
 
الفرضيات الإخراجية للمقدس في العرض المسرحي:
 
رؤية اخراجية
 
تكتسب الرؤية الإخراجية فاعليتها من لحظة إختيار النص الدرامي ، إذ يتأسس على ذلك الإختيار الكشف عن قدرة المخرج على التعاطي مع الفرضيات التي يكشف عنها النص ، وقد بدا واضحاً ان المخرج إمتلك القدرة على الإختيار والعمل على محاولة تكييف النص بما يتوافق مع المقترح الإخراجي ، فقد تكشف إشتغال المخرج على النص إبتداءاً عن طريق إضافة شخصية (عصا موسى) التي لم تكن متوافرة في نص المؤلف ، الأمر الذي كشف عن تغيير في المفهوم التقليدي للمقدس المتمثل بشخصية (النبي موسى) الذي شكل مع (عصا موسى) ثنائية المقدس، كما هو معلوم في الكتب المقدسة، إذ عمل المخرج على تحويل العصا إلى (إمراة/ انثى) وفي ذلك تأسيس لعلاقة تضادية مع المتن المقدس على مستويات عدة منها ما يتعارض مع النص القرآني المقدس (قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى? غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى? – طه 18 ) وفي الآية القرآنية تعبير واضح عن صلابة العصا التي تساعد النبي على القيام بأفعال معلومة (الاتكاء عليها ، هش الغنم) وأخرى غير معلومة (مآرب أخرى) وهو ما يرتبط بقدرتها الغيبية/الإعجازية التي مكنت موسى من شق البحر؛ ويأتي ذلك كله مناقضاً لصفات الأنثى التي ظهرت في العرض ، إلا أن المخرج لم يكن غافلاً عن تلك التناقضات ، بل على العكس بدا مدركاً لماذهب إليه ، ذلك أنه أراد إنتاج فرضياته الخاصة بمعزل عن مرجعيات العصا الدينية ، الأمر الذي جعل من العصا تملك غريزة المرأة التي ترفض أن تتشارك معها أنثى أخرى حتى وإن كانت مفجوعة كما هي (الأم) ، وهي إشارة واضحة للكشف عن سلطة (النبي/ الذكر) الذي أراد الجمع بين (الأنثى / العصا) بما تمتلك من قدرة على إثارة المآرب الأخرى لديه ، وبين (الأنثى / الأم) التي أثارت عاطفته بأوجاعها.فضلا عن ذلك فإن المخرج إختار التعبير عن شخصية (النبي موسى) في المشهد الأول على نحو مغاير لما تمتلكه تلك الشخصية في الذاكرة الجمعية ، إذ ظهر على سرير المرض عاجزاً عن تلبية حاجاته الأساسية ومستعيناً بقدرة (العصا/ الأنثى) على تلبية إحتياجاته ، وفي ذلك علامة دالة على تهشيم المقدس ، وتحويل النبي إلى كائن عاجز عن القيام بمعجزاته التي توافرت في النص الديني ، وقد أسهمت تلك الإلتماعة الإخراجية في الكشف عن فكرة فلسفية محايثة لما ذهب إليه الفيلسوف الألماني (فريدريك نيتشه) في طروحاته حول (موت الإله) ، والتي بدت حاضرة في عجز النبي وإنتهاء عصر المعجزات. إن إمتلاك المخرج القدرة على إنتاج فرضيات إخراجية لم يجعله قادراً على تحويل الكثير منها إلى رؤية إخراجية فاعلة ، إذ بدا واضحاً أنه لم يكن قادراً على إختيار الفضاء المسرحي المناسب لفرضياته ، بل على العكس إنساق وراء مقترحات المؤلف في التعبير عن (الوادي) الذي لم يتمكن المخرج من تجاوزه على مستوى (الملفوظ النصي) على الرغم من قدرته على تجاوزه في تأسيس فضاء العرض المعاصر، بمعنى آخر فإن فكرة التعبير عن (الوادي المقدس) إرتبطت عند المخرج بضرورة أن يكون الفضاء المسرحي واسعاً من دون ان يدرك أن ذلك لن يكون ملائماً لمقترحات العرض البصرية، لاسيما وأنه عمل على تجريد الفضاء من المفردات الديكورية التي كشف عنها في المشاهد الأولى والتي تمثلت (طاولتين ، سرير المرضى) ، فضلا عن ان توظيفه لتقنيات (الداتاشو) التي جاءت غير منسجمة مع الملفوظ النصي ، وبخاصة التأكيد على لفظة (الوادي المقدس) على العكس مما تم عرضه على شاشة (الداتاشو) والمتمثل بالشباك والامطار الغزيرة خارج المكان ، إذ حولت تلك الصورة المكان الذي إفترض المخرج جدلاً انه وادي من دون ان يدرك ان الصورة غيرت البيئة لتجعل من فضاء المسرح المجرد تعبيراً عن البيت الذي هجرته الحياة ، وهو تعبير دال على بيت (الأم) نفسها، وقد بدا ذلك واضحاً عن طريق تفاعلها مع بعض مفرداته كما في تأكيدها على (شرب الشاي)، وهي إشارة نابهة من المخرج إلا أنه لم يتمكن من الخلاص من بيئة النص المتمثلة بالتأكيد على (الوادي المقدس) في أماكن عدة من العرض.إن الإعتماد على تقنيات (الداتاشو) عن طريق كتابة (الملاحظات) للتعبير عن الاحداث والزمن ومقترحات المفردات الديكورية (الطاولة تبدو أكبر مما هي عليه) لا تنسجم مع بنية العرض المسرحي الذي لا يعتمد الوصف اللفظي ، وإلا كانت الملاحظات التي يسطرها كتاب المسرح في نصوصهم الدرامية قد إكتسبت حضورها في العرض ، إذ بدا واضحاً أن الركون إلى تلك التقنية لم يسهم في تحويل الفرضيات إلى رؤية أخراجية ، كما ان إعتماد المخرج على مشهد سينمائي من فلم (هلأ لوين) للمخرجة اللبنانية (نادين لبكي) لم يمتلك خصوصية في التعبير عن الرؤية الأخراجية ، ذلك أن الفلم هو متن حكائي منجز ، كان على المخرج صناعة مشهده الخاص سواء عن طريق تأسيس مشهد إستهلالي على خشبة المسرح، أو إن أراد المزاوجة بين الصورة في المسرح والسينما فذلك يفرض عليه تصوير مشهده الخاص من دون الركون إلى مشهد سينمائي جاهز حتى وإن كان موفقاً في الإختيار. من جهة اخرى فإن محاولات المخرج في توظيف التقنيات خارج العرض المسرحي والتي تمثلت في المشهد التمثيلي الذي عرض على (الشاشة) في ممرات المسرح الوطني والذي جسّده الفنان (سنان العزاوي)، لم تجد صداها عند المتلقي على الرغم من أن المخرج كان يبتغي من ورائها تحقيق مفهوم التشاركية في العرض المسرحي إلا ان ذلك لم يكن فاعلاً ،كذلك هو الحال مع الأقراص الليزرية (سي دي) والتي تم توزيعها على الجمهور قبل العرض في محاولة منه للتأكيد على الفعل التشاركي خارج العرض المسرحي، إلا ان المشاهد التي تم تصويرها في القرص لم تكن مغايرة لما تم تقديمه على خشبة المسرح سواء على مستوى الاداء التمثيلي أو فرضيات الإخراج ذلك أنها ظلت ملازمة للمتن النصي ، فضلا عن أن الفرضية التي أراد المخرج التصدي لها في هذا المقترح لم تكن موفقة ، إذ كان على المخرج أن يعتمد المشهد الذي جسده ( سنان العزاوي) بوصفه أسلوباً مغايراً للأداء الذي إعتمده في العرض، فضلا عن ان فكرة المشهد نفسه التي إفترض المخرج وقوعها بعد زمن طويل من العرض وليس قبل العرض، الأمر الذي لم يكن المخرج موفقاً في تحقيقه على وفق مبدأ التشاركية في العرض المسرحي، إذ بدت المقترحات التقنية عاجزة عن إنتاج علاقات مع المتلقي يمكن التأسيس عليها في مرحلة مابعد العرض التي كان المخرج يمني النفس في أن تكون فاعلة في وعي المتلقي كما هو العرض إلا أن الأمنيات اختارت الإبحار في سفينة التقنية بأشرعة مكسورة .
 
الإيقاع المسرحي وجماليات الضبط الأدائي :
 
يعد فعل المزاوجة بين المنطوق العاطفي الذي توافر في نص المؤلف من جهة ، والمناقشة العقلية الذي تكشف عن طريق علاقة الجدل بين (الام)من جهة و ( المقدس / الله / النبي) من جهة اخرى ، الامر الذي أسهم في الكشف عن الأداء التمثيلي الذي إعتمد المخرج فيه على منظومة الاداء (المحايد/ العقلي) ، وهو منظومة إشتغال إعتمدها المخرج الروسي ( مايرخولد) في الخلاص من طريقة المخرج الروسي (ستانسلافسكي) التقمصية أو العاطفية، بمعنى أن هذه المنظومة الادائية تميل إلى تقديم الشخصيات بمعزل عن تبني ملفوظها النصي، وقد افاد المخرج الألماني (برتولد بريخت) منها في مراحل لاحقة في التأسيس (للمسرح الملحمي) ، كما ان هذه المنظومة تختلف على نحو كلي في الكشف عن الإيقاع المسرحي الذي يتم بناؤه على نحو تصاعدي يراد به إثارة عاطفة المتلقي، إذ ان هذه المنظومة تحتكم على إيقاعها الخاص الذي ينمو على نحو أفقي مستفيداً من قدرة الممثل على تقديم موقفه العقلي والسيطرة على أفعاله العاطفية التي كانت تهيمن على الملفوظ النصي، وقد كشف المخرج عن قدرة في إقناع الممثلين في تبني هذه المنظومة الأدائية، إذ أستطاعت الفنانة( سهى سالم) والتي جسدت شخصية ( الأم) الإنضباط في سلوك أدائي ينسجم مع المنهج التقديمي في التمثيل على الرغم من إنقطاعها عن المسرح إلا انها ظلت حاضرة في التعبير عن الشخصية من دون الرضوخ للملفوظ النصي الذي كان يمكن ان يمنحها تفاعلاً أكبر مع المتلقي (العاطفي) إلا أنها ظلت حريصة على تطبيق الاداء العقلي ، ولم يكن الفنان (فلاح إبراهيم) الذي جسد شخصية النبي ( موسى) بمعزل عن ذلك الضبط الأداء على الرغم من المرجعيات الدينية التي تحكم شخصية النبي (موسى) إلا أن الركون إلى المنظومة العقلية أسهم في التعبير عن الفكرة التي عمل المخرج عليها ، وتجدر الإشارة إلى اننا قمنا بمشاهدة العرض مرتين للكشف عن حقيقة المشهد الكوميدي الذي غادر فيه الممثلان ( فلاح إبراهيم ، وسهى سالم ) منظومة الضبط الادائي ، وقد تبين أن العرض الأول كان يراد به تقديم (فاصل ساخر) هو أشبه بالترويح الشكسبيري، إلا ان الممثلان إنساقا وراء (تصفيق) المتلقي ، الأمر الذي دفع بالممثل (فلاح إبراهيم) إلى تبني ملفوظ يومي (شعبي ) مغاير للملفوظ النصي، فضلا عن خروجه من شخصية النبي (موسى) والعودة إلى شخصية (فلاح إبراهيم) ، وقد نجح في إشراك الممثلة ( سهى سالم ) في ذلك عن طريق الضحك ومغازلة المتفرجين والإشارة إلى أسماء بعضهم، كل هذا لم يكن منسجماً مع منظومة الاداء التمثيلي، الأمر الذي بدا فيه نشازاً عن العرض ، اما في العرض الثاني فإن المشهد الكوميدي إتخذ أسلوباً آخر، إعتمد فيه (فلاح إبراهيم) على (الترويح الشكسبيري) الفعلي الذي لا ينساق فيه الممثل وراء (تصفيق المتلقي) بقدر التزامه وانضباطه في سلوك الشخصية، فضلا عن ان المشهد جاء تعبيراً عن تجريد الانبياء من قداستهم وسلطاتهم .
 
اداء تمثيلي
 
وقد جاء أداء الممثلة (زمن الربيعي) منسجماً مع المنظومة الادائية فضلاً عن مزاوجتها في تجسيد شخصية (العصا / الأنثى) إذ انها ظلت حريصة على السلوك الادائي المحايد مع إستثناءات قليلة جاءت لضرورات إخراجية اكثر من ان تكون سلوكاً أدائياً ، كما في مشهد رفضها لسلوك النبي موسى الذي يتعاطى الادوية من دون ان تسمح له بذلك.
 
المؤثر السمعي وفاعلية الضوء على خشبة المسرح:
 
لم يكن إشتغال المخرج على توظيف المؤثرات السمعية بعيداً عن الفعل المحايث الذي إعتمده المؤلف في التعاطي مع فكرة المقدس وعلاقتها بالمؤلف (يوربيديس) ، إذ إختار المخرج الإعتماد على نص قرآني ليكون مؤثراً صوتياً يكون بداية للعرض المسرحي ، إلا أن ذلك المؤثر الصوتي لم يمتلك خصوصيته في مضمون العرض ، الأمر الذي دفع بنا للإشارة إلى مقترح (يوربيديس) في ضبط المتلقي ومحاولة التأكيد على أن ما يقدم على خشبة المسرح لا يتعارض مع المقدس ،بل هي محاولة لإنتاج حوار عقلي مع المقدس من دون الركون إلى الأسلوب العاطفي في شكل العلاقة بين الخالق والمخلوق، إلا أن عدم تكرار المؤثر الصوتي جعله بمعزل عن العرض ، من جهة أخرى فإن إختيار موثر صوتي ممتد على طول زمن العرض من دون ان يؤثر على الاداء التمثيلي كانت فكرة موفقة ذلك ان المؤثر الصوتي أسهم على نحو واضح في ضبط الإيقاع المسرحي الذي قد يبدو للوهلة الأولى رتيباً ، إلا ان فعل الاستمرار والتأكيد الصوتي المرافق له جعل منه أيقاعاً خاصاً ومنسجماً مع منظومة الاداء العقلي.وقد بدا واضحاً أن إشتغال الضوء في العرض المسرحي لم يكن في مستوى يرتقي إلى الإنسجام مع منظومة العرض ، إذ ان المخرج لم يعتمد بناء نظام ضوئي ينسجم مع فرضيات العرض ، الامر الذي كشف عن عيوب الفضاء المفتوح امام المتلقي.

—————————
المصدر : مجلة الفنون المسرحية – صميم حسب الله – الزمان 

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *