مسرحية محاكمة جان دارك لبرتولد بريخت/علي خليفة

لا عجب أن نرى بعض عناوين مسرحيات بريخت فيها لفظ المحاكمة – مثل مسرحية محاكمة لوكولوس ومسرحية محاكمة جان دارك- فالمحاكمة حاضرة بقوة في مسرحياته حتى تلك التي ليس في عنوانها لفظ المحاكمة -ومن ذلك مسرحية الاستثناء والقاعدة ومسرحية بادن بادن-، وذلك لكونه يحب طرح القضايا السياسية على جمهوره من خلال المحاكمات ، ويعرض له خلال تلك المحاكمات وجهات النظر المختلفة حولها ، وعلى كل فرد في الجمهور المتلقي لها أن يختار لنفسه موقفا منها ، وبهذا لا يكون تلقيه سلبيا لهذه المسرحيات
وشخصية جان دارك عاشت في فرنسا في النصف الأول من القرن الخامس عشر ، وشاركت بالنضال ضد المحتل الإنجليزي لأجزاء كبيرة من فرنسا آنذاك ، واختلفت نظرة المؤرخين والمبدعين ورجال الدين نحوها ، فمنهم من رأوها شابة مناضلة قاومت المحتل الإنجليزي بالسلاح والتحريض ، ومنهم من رأوها قديسة كانت على علاقة مستمرة بكائنات روحية كانت ترشدها في طريقها في الحياة وفِي الثورة ضد المحتل الإنجليزي ، وهناك أيضا من رأوها فتاة أصابها مَس من الجنون ، وكانت تتخيل أن هناك كائنات روحية تتصل بها ، وأيضا هناك من الباحثين والمؤرخين وبعض رجال الدين من رأوها زنديقة خارجة على شرائع المسيحية
ومن أشهر الأدباء الذين اتخذوا من سيرتها مسرحية الكاتب الأيرلندي جورج برناردشو في مسرحية القديسة جون ، وكذلك الكاتب الألماني برتولد بريخت في مسرحية محاكمة جان دارك
ومسرحية محاكمة جان دارك لبريخت ، فيها مزيج من المسرح الملحمي والمسرح التسجيلي ، فتبدو فيها بعض سمات المسرح التسجيلي في حرص بريخت على ذكره بعض المعلومات عن جان دارك وتفاصيل محاكماتها ، وأثر محاكماتها على جمهور الناس في فرنسا آنذاك ، وما نتج عن قتلها حرقا من ثورة قامت بعد موتها بنحو خمس سنوات نتج عنها طرد المحتل الإنجليزي من فرنسا إلا مدنا قليلة منها
وأيضا من ملامح المسرح الملحمي فيها وجود الجوقة التي تقوم بسرد بعض الأحداث والتعليق عليها ، وعرض المحاكمات التي تعرض موقف قضاة المحكمة من جان دارك وتعليق بعض العامة على هذه المحاكمات ، واستنفار المشاهد لكي يكون له موقف من الاتهامات التي وجهت لجان دارك
والمسرحية تبدأ بتعليق الجوقة على قبض الإنجليز المحتلين لفرنسا على جان دارك ، وترقب محاكمتها من قبل قضاة فرنسيين متعاونين مع المحتل الإنجليزي
ومن الواضح أن محاكمة جان دارك كانت محاكمة صورية الغرض منها مجرد الشكل الظاهري للمحاكمة أما الحكم فهو معروف الإعدام أو السجن المؤبد ، وكل ما هو مطلوب خلال سجنها ومحاكمتها إضعاف همتها وتشكيك مناصريها فيها، ولا يهتم قضاتها بتوجيه الاتهام لها بالثورة ضد المحتل الإنجليزي ، ولكنهم يهتمون بتوجيه الاتهام لها بالزندقة والخروج عن العقيدة المسيحية لادعائها أنها ترى كائنات روحية وتتواصل معها وأنها تسمع أصواتهم وهم يحرضونها على مقاومة المحتل الإنجليزي
وتتمسك جان دارك بموقفها وتصمد طويلا ، ولكنها مع طول سجنها وسوء معاملتها وتهديدها بالموت حرقا بشكل بطئ ،ولإحساسها أيضا بأن الناس من شعبها لم يعودوا يهتمون بها -لكل هذا -استسلمت ووقعت على ورقة تعترف فيها بأنها لا تتصل بأي كائنات وأنها كذبت فيما قالته من قبل
ومع توقيع جان دارك على هذه الوثيقة فإن قضاة المحكمة الذين حاكموهم وطلبوا إليها التوقيع على هذه الوثيقة لم يفوا لها بوعدهم بإطلاق سراحها ، وأمروا بالسجن المؤبد لها،
وحين علمت جان بأن الشعب مازال يناصرها ، وأنه تألم لتوقيعها تلك الوثيقة – عادت لارتداء ملابس الرجال التي كانت تحرمها الكنيسة آنذاك على النساء-وجان بهذا تعلن عصيانها من جديد وكونها تعود للكفاح ضد المستعمر الإنجليزي-
ويأمر القضاة الذين حاكمونا من قبل بموتها حرقا ببطء لتتعذب قبل موتها ، وذلك لكونها زنديقة خارجة على الشريعة المسيحية ،وتتصل بالشياطين شأن الساحرات
وتحرق جان حية ، وتتألم قبيل موتها من إحراق النار لها ، وتعلق الجوقة بأن موت جان كان شرارة مهمة ساعدت في إشعال الحرب على الإنجليز المحتلين لفرنسا حتى تم طردهم من فرنسا كلها- إلا مدنا قليلة -بعد خمس سنوات من قتل جان دارك
وفي ظني أن هذه المسرحية هي أهم مسرحية تأثر بها صلاح عبد الصبور في مسرحيته مأساة الحلاج ، ففي مأساة الحلاج لعبد الصبور نرى بطلها الحلاج يقود ثورة ضد بعض جوانب من الظلم في مجتمعه، وهو أيضا يُتهم في عقيدته ،ويحاكم محاكمة صورية ، ويهتم اثنان من قضاته بتوجيه الاتهام له بالزندقة ، ويتأثر بعض الثوار بأقواله في الدعوة للعدالة ونبذ الظلم، وتنتهي حياة الحلاج كذلك بإعدامه
وبهذا نرى التشابه الواضح بين مسرحية مأساة الحلاج لعبد الصبور ومسرحية محاكمة جان دارك لبريخت

محمد سامي / موقع الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *