مسرحية فوضى.. تفلت الرؤية في حضور الجسد..بقلم: يوسف الحمدان

في تجربته المسرحية الاستثنائية والإشكالية والورطوية، يقتحم المخرج المسرحي الشاب حسين العصفور فضاء مغامرة جديدة وصعبة، تقتضي تحديا معرفيا ورؤيويا واختباريا معمليا مغايرا ومختلفا عن حزمة تجاربه المسرحية التي قدمها قبل هذه التجربة التي آثر أن يطلق عليها (فوضى) وهي (الكراسي) للكاتب الروماني أوجين يونسكو الذي قدم للعالم مسرحيات أغوت كبار المخرجين وأكثرهم مغامرة، من بين هذه المسرحيات (الدرس) و(القاتل) و(المغنية الصلعاء) و(الخرتيت) و(الملك يموت)، ولكن تظل (الكراسي) أكثرهم إغواء وتحديا وقدرة على جوس عوالم هذا الكون بمختلف اتجاهاته ورؤاه.
لذا كانت (الكراسي) التي استفضى لها العصفور خشبة الصالة الثقافية وأنتجتها فرقة أوال المسرحية، هي الأقرب لمزاج ورؤية مخرجنا المغامر حسين العصفور، الذي أزعم أنه قدم من خلال هذه المسرحية تجربة ستكون حاضرة بقوة في ذاكرة مسرحنا البحريني، ذلك أنها قامت واتكأت على بحث في فضاء جسد الممثل باعتباره فضاء الرؤية والعرض في آن.

فبمنأى عن مجمّلات ومكمّلات العرض المسرحي التي غالبا ما يلجأ إليها مخرجونا في عروضهم المسرحية، لإيهام المتفرج باكتمالية العرض المسرحي، يرمي العصفور بنرد تجربته في فضاء العرض عاريا من هذه المجملات والمكملات إلا من أنفاس جسد ملتهب ومصطخب ومتفلت ومتهكم ومحتف بعجزه، مختبرا إمكانات هذا الجسد الأدائية والزمنية والسينوغرافية والرؤيوية، من خلال طاقتين طوعيتين شبحيتي التكوين والزمن، متجسدتين في زوجين عجوزين ليس لهما من الزواج سوى ما ينفرهما من جسديهما المهترئين ومن هذا العالم الذي ينفث برائحة عفن (خراتيته) على أنفاسهما، إنهما حارس العمارة الذي قام بأداء دوره الفنان (حسن العصفور) وزوجته الطموح التي قامت بأداء دورها الفنانة (ريم ونوس).
فضاء واسع ومرعب ومحير، تمكن العصفور إلى حد كبير من استثماره عبر الزمن الأدائي المتقاطع والمتنافر والنكوصي والمضطرب بين شخصيتي العرض، كما تمكن من إشعال فراغات هذا الفضاء بالزمن الأدائي اللا مرئي أو الوهمي للشخصيات والأحداث التي استحضرتها في وليمة الفاجعة هاتان الشخصيتان، هذا إلى جانب اللعب المتقن والمفعم بالحيوية على تشخيص أدوار متعددة ومختلفة الأمزجة، برزت بوضوح ساتيري أو كاريكاتيري أثناء استقبال الشخصيتين لضيوف الحفل.
ولولا اتكاء العصفور في غالب رؤيته الإخراجية على الخط الأفقي في أداء هاتين الشخصيتين، لكان لهذا الفضاء دلالات توليدية متشظية ومثيرة لفضاء مخيلة التلقي، بحيث يصبح فضاء العرض فضاء مفتوحا يتملك قابلية انزياحية العبث كثيمة رئيسية، بوصفها عالما وليس بوصفها عرضا مسرحيا فحسب.
إن هذا الخط الأفقي الذي رسمه العصفور لأداء الشخصيتين، يعكس حالة تفلت العبث ذاته وعدم انتظامه في الزمن والمكان واللغة، وخاصة ما إذا اتكأ على حالة أشبه بالحالة المسطرية في نظام قوانين مساحتها وأرقامها، فالعبث ليس فوضى وإنما ثورة في حينها، أسهمت في تغيير الأنموذج الأرستقراطي في أوروبا، لذا لا ينبغي النظر إلى مسرحية الكراسي ليونسكو على أنها مسرحية نصية فحسب، وإنما ينبغي تأملها بوصفها نتاج فجائع وكوارث مرت بها أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية وبعد قنبلة هيروشيما وبعد بدايات الحرب الباردة ونشوء الأفكار السوداوية إلى تنبؤات انهيار الغرب.
إنها مسرحية تعكس كل ما هو نتائجي بطبعه وتكوينه، فكلمة فوضى تعطينا للأسف هذا المعنى النتائجي الذي يعاكس ما يذهب إليه يونسكو في كراسيه، فالكراسي لدى يونسكو تحمل إحالات دلالية كثيرة وغير مباشرة، وأكثر عمقا من الفوضى التي قد تعتري أحداثها أحيانا، الأمر الذي يدفعك إلى أن تسأل أحيانا: هل الشخصيتان (حارس العمارة وزوجته) هما الأصل في العرض أم الكراسي؟ هل هما كرسيان من الكراسي التي يحمل كل كرسي فيه ملامح وشخصية وكيانا ومستوى أم الكراسي هي التي تقوم بدور الشخصيتين أصلا؟ هل هاتان الشخصيتان موجودتان أصلا أم هما أيضا وهما وتمثلا لشخصيتين مفترضتين؟ أين تكمن القوة في العرض؟ في الشخصيتين أم في الكراسي وشخصياتها القرينة الوهمية؟
إن فوضى العصفور، أحالتنا إلى نموذج مسرح الدوائر المغلقة، وذلك بإضافته مشهدي المقدمة والخاتمة على مسرحية ليس لها في الأصل لا مقدمة ولا خاتمة، من واقع قراءتنا الدلالية لفلسفتها العبثية، مسرحية تنتمي إلى النصوص المفتوحة، وبالتالي يغلق العصفور الدوائر على رؤيته الاجتهادية المتفلتة والجريئة، إذ لم يكن هناك أي لزوم لوقعنةٍ غير منسجمة مع اشتغالاته العبثية لنص الكراسي.
طبعا، من حق أي مخرج أن يرتأي رؤية أخرى لمثل هذا العرض، سواء كانت سيريالية أو واقعية أو رومانسية أو ما يشاء من اتجاهات التجريب التي يرى أنها تتسق مع اختياره لهذا النص، المهم والأهم أن يكون هذا النص مختبرا لرؤية فكرية جاست عميقا في تفاصيل وتضاعيف وأعماق هذا النص، حتى تكون مبررة في تناولها وعرضها، ولعل هاتين الضفتين (مقدمة الفوضى ونهايتها)، هما ما كان للعصفور أن يتأمل أهميتهما جيدا في العرض قبل أن يشتغل في فضائه.
وإذا ما وقفنا عند هاتين الصفتين، باعتبارهما حالة دخيلة على تجربة تفترض نقيضها، فإننا ينبغي أن نعيد النظر أيضا في الاشتغال على الزمن الموسيقي للعرض المسرحي، والذي أيضا تماهى مع الأداء بشكل عام بوصفه حالة واقعية، ولم يشتغل عليه بوصفه حالة من حالات العبث الشاطحة التي لا تتسردن بنظام أو قانون، بالرغم من الاجتهاد التأليفي للحالة المسرحية، وهو اجتهاد محمود وفريد عرف به الفنان حسن المحاري منذ تجارب العصفور المسرحية الأولى.
إن للكراسي في المسرحية موسيقاها وإيقاعها، فهي الشخصية والزمن والمكان والرؤية، وقد كان العصفور موفقا إلى حد كبير في تضمين شخصيتي العرض هذه الحالة، إذ كان وجودهما الحي في فضاء العرض أشبه بهذه الكراسي الوهمية التي تجسد شخصيات وهمية، لا تزيدهما إلا عجزا ونأيا عن وجودهما وهويتهما الحقيقيين، ولقد كانت الشخصيتان أنموذجا ساطعا في هذا الفضاء لاختبار العجز الإنساني في أقصى انسحالاته اللاإنسانية.
وحتى يتقاطع وجود هاتين الشخصيتين (المكرسن) أو (الكرائسي)، مع الكراسي بوصفها شخصيات أخرى في العرض لها حضورها الحي فيه وموقفها مما يحدث، سلبا أو إيجابا أو عبثا، كان ينبغي أو يفترض أن تأخذ هذه الكراسي أبعادها الدلالية والتعبيرية في التكوين بوصفها بطلا له حضوره الجلي في العرض، لا أن يتم التعامل معها إخراجيا وأدائيا بشكل عامي وعشوائي.
فالمخرج العصفور اجتهد جيدا في الاشتغال على جسد الممثل في العرض، ولكن عازه الاشتغال على ما يعضد رؤيته فيه، ومنها الاشتغال على تكوين الكراسي، فالكراسي في العرض هي السينوغرافيا، وهي الشخصيات، فهل نحتاج إلى بدائل عنهما أو لهما، كالبانوهات التي استخدمت بشكل واقعي زائد غير موفق وغير دال، ودورها لم يتجاوز حدود مخابئ الكراسي التي يقصدها الممثلان بين حين وآخر لجرها إلى مواقع العرض، فماذا يضير المخرج لو كانت سينوغرافيا عرضه برمته هي الكراسي فقط التي كما أتصور أنه بإمكانه أن يشكل منها تكوينات ودلالات جمالية تتسق ولعبة العرض المسرحي ورؤيته فيه؟
إن سينوغرافيا العرض، بوصفها شخصية رئيسية حية وضرورية، يقتضي الأمر إعطاءها أهمية استثنائية، والوقوف عند ضرورة اختبارها ضمن رؤية المخرج الأساسية للنص، لا التعامل معها بمعزل وبمنأى عن فضاء الأداء، فنكون في الحالة هذه نتعامل مع العرض بوصفه حالات تقتضي تهميش ما يجذيها ويعمق الرؤية فيها.
لقد تسنى لي أن شاهدت الكراسي بباريس في مسرح الستين كرسي بشكلها المخلص جدا لكلاسيكيتها الخمسينية، أي في الوقت والزمن الذي كتبه مؤلفها أوجين يونسكو، وكانت كما هي، كما وصفها في تفاصيل مكانها وأداء ممثليها، وكانت مدهشة ومثيرة حتى ببرود أداء ممثليها المقصود طبعا، نقيض الوهج الجسدي الصاخب طبعا لممثلي العصفور في عرضه، وشاهدتها هي الكراسي أيضا برؤية المخرجة اللبنانية لينا صانع، وكانت انعكاسا تجريبيا لعبثية الحرب الأهلية اللبنانية التي مازالت لبنان تعيشها حتى هذه اللحظة، وأنا أراها اليوم برؤية العصفور، بوصفها رؤية ثالثة، ربما تكون متمردة ومختلفة عن غيرها، ولكني كنت أبحث طوال العرض فعلا عن ثيمة الرؤية في الرؤية، من تعني وماذا يريد المخرج من خلالها أن يقول؟ أين زمن الذاكرة في الأداء؟
لا يكفي الحماس للنص والانتماء لكلماته والحالات المتشظية فيه، الأهم من كل ذلك هو ما الذي استثارنا في النص؟ ما الذي يشغلنا هنا أو هناك حتى يكون النص شاغلا موازيا لما يشغلنا خلافه؟
لم ولن نختلف أننا أمام طاقتين أدائيتين مكتنزتين وهائلتين، أحببتهما شخصيا وعشقتهما، وكانتا مقتدرتين على ترجمة الأبعاد الإنسانية بروح متوقدة ومتوثبة في هذا النص الصعب والإشكالي، ولكن يظل السؤال عالقا في الذاكرة: إلى أي ذاكرة تذهب هذه الرؤية؟ في أي واقع أو فضاء تعيش شخصياتها؟ كيف نصوغ تصوراتنا الأدائية لهذه الشخصيات؟ أسئلة كثيرة وشائكة تواجه أي مخرج، وخاصة لمثل هذه النصوص التي تبدو في قراءتها الظاهرة بسيطة وسهلة وممكنة التجسيد، ولكنها في حقيقة الأمر تخبئ في أعماق هذه البساطة ألغاما مروعة ومباغتة، لا تدركها إلا إذا لامست أعماقها حقا وليس من فوق السطح، فالمسرح كما يقول فيلسوف المسرح الإيطالي ريبورتو اتشوللي: المسرح هو اصطياد السمك من فوق ذرى الأمواج.
إن المسرحية أشبه بقصيدة ساخرة ناعمة، وقد تمكن المخرج العصفور في رأيي طبعا من أن يجعلنا نضع أيدينا على رياش رؤيته ونستشعر نعومتها ووخزها في آن، وإن كنت أتمنى أن استشعر بيدي هذه النعومة أكثر، وخاصة في الصمت الواخز الذي لم يعبر علينا إلا في لحظة استفزاز الزوجة العجوز لزوجها وعدم رضاها عن طموحه ورده عليها (لنرض بالقليل).
فبالصمت يمكن اللعب أدائيا مع فوضى الكلمات العابثة، وبالصمت نحيي زمن الذاكرة في الأداء، وبالصمت نستشعر الأداء الجواني والأحداث اللامرئية التي أحيانا لا تستطيع الكلمات إعلانها أو التعبير عنها، الصمت نجده ونستحضره حتى في أشباح الكراسي الموجودة واللامرئية، فالعبث لا يعني لغوا أو ثرثرة أو استهلاكا لكلمات غير معقولة، العبث فلسفة ورؤية وعمق، تنأى عن تفسير بعض المنظرين له، لذا ينبغي أن نقرأ من بين فراغات الكلام فعل الصمت في الحدث والعرض.
ولعلنا نستطيع أن نتبين ملامح رؤية العصفور أكثر، في إبقائه على شخصيتي عرضه حيتين من دون أن تنتحران كما في نص الكراسي ليونسكو، معلنتين من خلال صرختيهما الأخيرة والمتواصلتين، استمرار الرفض لواقع الزيف والفساد الذي تعيشانه بمرارة، ولو كان المخرج مكتفيا بضحكات وصخب وهمهمات تأتي من الجمهور الوهمي المدعو، لكان أكثر موفقية في رؤيته من إعلان مشهد الفوضى في نهاية العرض بشكل كاريكاتيري لا يتسق مع عمق الحالة المشهدية لصرختي الشخصيتين.
إن المخرج الشاب المتوهج حسين العصفور، تصدى لنص مسرحي يصعب التصدي له، ويعتبر في البحرين أول من يتصدى لمسرحية الكراسي، ويتمكن من أن يشكل من خلالها رؤية جديرة بالاهتمام ولا تقل أهمية عن الرؤى الإخراجية العربية التي تصدت لمثل هذا النص، لذا مثل هذه التجربة، لمثل هذا المخرج المبدع حسين العصفور بفريقه المتميز، جديرة بأن تدرس بعناية، وأن تجد حقا موقعا مهما في حيز مشاركاتنا المسرحية الخارجية، فالعصفور مقل في عروضه المسرحية ولكنه مشع كمنجم الذهب في كل عرض مسرحي يتصدى له .
ملاحظة :
عندما أعاد المخرج العصفور هذا العرض تحت مسماه الاصلي ( الكراسي ) ، ضمن عروض مهرجان مسرح اوال الدولي العاشر المقام هذه الأيام بمملكة البحرين ، خانته بعض المفردات التي من الممكن ان تشظي عرضه بسبب بعض التغييرات التي أحدثها على العرض ، فزادته وقعنة لا تلتئم والرؤية الفكرية والتخيلية التي يقترحها يونسكو في كراسيه …

المصدر _ محمد سامي موقع الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *