مسرحية «شمع» لجعفر القاسمي: يولد الانسان حرّا ، و لكنه في كل مكان يجرّ سلاسل الاستعباد

 

 

مفيدة خليل – المغرب – مجلة الفنون المسرحية 

تحررت الاجساد من ألمها، كانت الاجساد عنوان الفكرة الجسد مطية التعبير، وحده الجسد صرخ وعبر عن ألم داخلي قد لا تكفي كل الحروف للتعبير عنه، بالجسد نقدوا السياسة وبالجسد

تحدثوا عن وجيعة المجتمع عن الظلم والتمييز والاحساس بالقهر، عن الموت والحياة عن الالم والامل عن فرح يسبق ترح موجع وقاتل، ثنائيات عديدة ابدع الممثلون في تجسيدها على الركح في أول عروض أيام قرطاج المسرحية.

«شمع» مسرحية من اخراج جعفر القاسمي عمل يفتت الروح البشرية ويغوص في كل تناقضاتها ووجيعتها، عمل يجردنا من المثل و يضعنا امام حقائقنا وتشوهاتنا عمل قد تعجز عن اكمال مشاهدته ليس لعيب فيه وإنما لخوفنا من ذواتنا وبشاعة مانخفيه داخلنا، على الركح جردوا المتفرج من كل الاقنعة ووضعوه في مواجهة حقيقته الموجعة.

الجسد صوت الروح

هم عشرة اجساد، تسعة اجساد لرجال وامرأة وحيدة، كل جسد له طريقة خاصة في الجلوس، وخلف الستار جسد يلبس الابيض تماما كما كفن الموتى، اختلفت حركات الأجساد اختلفت الألوان من الاحمر القاني لون الدم و الموت، الى الرمادي لون الوجيعة والألم الى الاخضر الداكن لون يحيل عادة الى الجرأة والإقدام فالأسود لون الظلام ومعهم الابيض الذي قيل انه لون للسلام ولكنه لون الموت ايضا.

رائحة البخور تفوح في القاعة، تقترب الى رائحة عطر الموتى، الموسيقى حزينة تفتت الروح وتجعلك تتساءل للحظات كيف سيكون العمل، الموسيقى تحملك اهازيجها الى انات الامهات وهنّ يرثين اأبناءهنّ في أغاني تنهك الروح، موسيقى الناي الحزينة كانت فاتحة العرض، هم عشرة اجساد، بعد دقائق يجد المتفرج نفسه امام خمسة ممثلين وخمسة راقصين، احداث العرض تدور في منزل عائلة تونسية بسيطة، احد ابنائها يطمع في افتكاك المنزل لصالحه ويحاول بجميع السبل اخراج بقية اخوته من المنزل لأنه «سيسقط» و يجلب خبراء ليؤكدوا قوله.

تبدو القصة بسيطة في البداية ولكنها متشابكة فالعائلة انموذج مصغر عن الوطن، والمسرحية ايضا جزء من وجيعة كل متفرج حضر ليشاهد «الشمع» فجميعنا كالشمع نضيء المكان ثم ننطفئ تدريجيا حد الفناء، وعلى الركح ابوا الانطفاء وظلت وجيعتهم حية تنبش في الم الوطن وتذكر بخيباته.

في المسرحية جسدوا الشخصيات بأسمائهم الحقيقية ربما لان ما قدم هو جزء من وجيعة كل ممثل، مزجت في عمل مسرحي احسن جعفر القاسمي في نسج خيوطها وأبدع الممثلون في تقديمها الى جمهور جاء ليكتشف «الشمع».

توفيق العايب بلباسه الابيض كما لون السلم، محرك الاحداث هو الجد هو الذي ربى ودرّس هو الاب والجد وهو السياسي ايضا الذي بنى الوطن و بكل لطف يطلب من احفاده دفته وتركه يرتاح في قبره دون الحديث عنه يوميا والتشكيك في نزاهته وسياسته وطريقة ادارته للعائلة والبلد و«كفانا متاجرة بالموتى».

عاصم بالتوهامي في شخصية عاصم نجده يلبس اللباس الاحمر تماما كلون الدم وفي الشخصية هو عاشق للدم عاشق للمادة لا يهمه كيف او متى ما يهم كيف يصبح صاحب المنزل والمتصرف الاول والاخير في كل شؤونه، المنزل اصبح قبوه مقبرة جماعية تماما كتونس التي اصبحت مقبرة جماعية للأحلام والطموح والامل و الغد ، الشخصية شريرة ولكنها تكشف وجيعة الوطن تكشف الجانب المظلم الذي يريد البعض اخفاءه.

أما خالد فرجاني فمناضل هارب من «الحاكم» شاب يافع يبحث عن «يحيى» الأخ والرفيق والصديق «الرجلة والصدق، يحيى المبدأ» كما في نص المسرحية، خالد الفرجاني يلبس اللون الااخضر الداكن لون عادة ما يلبسه الثوريون وللون انعكاسه على الشخصية التي بدت متمردة رافضة للظلم شخصية تريد التغيير رغم صعوبة الطريق وسوداويتها احيانا.

أما الصحبي فشخصية مركبة، شاب متحصل على استاذية في التاريخ سجن ظلما وفقد والدته في السجن وبعد خروجه من غياهب السجن سجن نفسه في الماضي باحثا عن الحقيقة ناسيا ان هناك «الغد» ومن يبحث عن الحقائق عليه مواجهة الغد لا التقوقع في الماضي، وان مات يحيى فهناك الف يحيى اخر يحمل مشعل الحلم والمقاومة.

جميعهم اشترك في الوجيعة، جميعهم عبر عن الالم بطريقة مختلفة، اشتركوا في الم الانسان نقلوه على الرّكح في اطار ما يسمى بمسرح الحركة، مسرح داخل المسرحية ولعب درامي وسط الحكاية، للضوء الاصفر تأثيره على الاحداث ولصوت الفرقعة تأثيره على المتفرج وكأنها دعوة ليصحو من وجيعته ويحاول الخروج من كل القيود ويغير الموجود فأكثر الناس شجاعة يعانون من أكثر المآسي ألماً ، وهذا بالذات هو سبب اعطائهم الحياة قيمة كبيرة ، لأنهم يواجهون الحياة مدججة بأكثر أسلحتها رعباً. كما يقول فريدريك نيتشه.

صابرة…المرا…تونس الصابرة

هي المرأة هي الانثى هي الوجيعة والابتسامة هي الحرية والدكتاتورية هي الضحكة والدمعة هي الروح الحالمة والنفس المنهكة، هي «صابرة» على الظلم والعيب و الحرام و «مايجيش» عن الالم تتحمله وتغرس اظافرها في جبروت الحياة لتواصل، في الشمع امرأة وحيدة ربما لان وجودها يختزل عشرات الرجال، صابرة الهميسي جسدت دور صابرة كما طلب المخرج.

في البداية تركت لجسدها حرية التعبير تركت له فرصته ليتحدث عن وجيعتها وعن وجيعة كل نساء هذا الوطن، «صابرة» امرأة يتيمة وجدت نفسها في بيت عمها، احبت عشقت وأنجبت طفلا «غير شرعي» ليس مهما من يكون والده المهم ما الذي تريده امه، صابرة هي الوجيعة، صابرة هي الوطن هي الام صابرة هي كل نساء هذه الأرض لأنها جسدت جزءا من وجيعتهنّ، صابرة الهميسي بكت وأبكت الحضور لكلماتها وقع الرصاص على الروح، لكلماتها الموجعة عن معاناة المرأة وقعا وخصوصيتها، صابرة الهميسي ليست ممثلة ولكن صدقها في الحديث عن الوجيعة كان مميزا، على الركح تجرّدت من كل المثاليات و كانت صادقة حاولت ان تحول الرمادي الذي تلبسه الى ابيض بغاية توفير مستقبل افضل لوليدها فصابرة الشخصية تريد أن يعيش ابنها حياة هادئة ويستمتع بحياته وصابرة الانسانة اهدت نجاحها لابنتها شمس طالبة ان تكون بخير تماما كما تونس.

يقول جون جاك روسو إن ضعف الإنسان هو الذي يجعله إجتماعياً.وعناصر الشقاء المشتركة بيننا هي التي تدفع قلوبنا الى الإنسانية. فما كنا لنحس أننا مدينون للإنسانية بشيء لو لم نكن بشراً» كذلك كانت نهاية المسرحية تذوب الاجساد كما ينطفئ الشمع تدريجيا، وتحاول الشخوص البحث في داخلها عن بعض هدوء وسلام ففوق المقبرة قد تزهر بعض الشجيرات وفي كل داموس او قبو هناك شعاع من الشمس يتسلل عنوة وان احكم غلق كل المنافذ كذلك الامل يولد فينا وان قست الظروف يزهر هكذا هي رسالة شخصيات مسرحية «شمع».

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *