مسرحية “تلاشي” لعمار اللطيفي: سـيـرة الـوجـع/ابتســــــــــــــام القشّوري

تدخل الى مسرحية ” تلاشــي” لعمار اللطيفي على إيقاع موسيقى خافتة وفي ركن مضيء على خشبة المسرح ينزوى فيها الممثل مع آنية مليئة بالجزر، يأكل منها بتوتر، يقلّب أوراقا في ملفّ في حركة مشوشة يبحث فيها عن شيء ما: عن بقعة ضوء.

هي مكونات دراما مسرحية لم يعتمد فيها عمار اللطيفي على رواية أو قصة أو نص مسرحي درامي بل هو مستمد من سيرة ذاتية. سيرة “عمار اللّطيفى” شاب من سيدي بوزيد تخصّص في دراسة الروسية واحترف التمثيل. هي السيرة الملتصقة بسيرة المعاناة مع المرض: سيرة الوجع. يأخذك عمّار بجسده وكل حواسه المتبقية الى رحلته مع الالم، الى رحلة اكتشافه لمرضه النادر الذى أصاب عينيه حيث اكتشف أنه يفقد بصره في تدرج إذ تتلاشى أعصاب العينين شيئا فشيئا لتفقد وظيفتها وتدخله في ضبابية الرؤية.

في هذه الرحلة تسافر رفقة عمّار ومن خلال خشبة المسرح الصغير الى كامل ربوع تونس ومستشفياتها: صفاقس، تونس، سوسة وغيرها ويتماهى بطريقة كوميدية ساخرة مع أطباء العيون الذى يسميهم بأسمائهم في طريقة منه للإيهام بالواقعية ويجعل لكل منهم صوته الخاص ولكل طريقته في التعامل مع المرض ومعه، كما انه اعطى اصوات اخرى لجده ولأمّه.

بين الحاضر والماضي وبين الشباب والطفولة، يعتمد عمار على تقنية الفلاش باك ويعود بنا الى الطفولة ليتخير لحظة زمنية بعينها ربطته بقطيع جده حيث كان يتلذذ بإصابة عيونهم فيطلب منهم المغفرة ومن كل الحيوانات لعل المرض الذى اصابه كان لعنة من الله على ذلك الصنيع بطريقته الساخرة والمضحكة.

 كما تشير هذه السيرة بطريقة رمزية الى تلاشي أهداف الثورة التونسية، هذه الثورة التى انطلقت من مسقط رأسه سيدى بوزيد في إشارة ساخرة الى انزياح اهداف الثورة عن مسارها في تحقيق الأهداف المنشودة الخبز والكرامة والتشغيل الى مسار آخر جعلت من الشعب اكثر جوعا وأكثر جهلا وأكثر تشردا وهنا تتماهى معاناة عمار مع معاناة شعب بأكمله راهن على ثورة مزيفة وآمن بالخروج من غياهب الظلمة ليجد نفسه بمرور السنوات وكما عمار في ضبابية الرؤية.

الأسلوب الكوميدي 

ولهذا اعتمد عمار اللطيفي، في مسرحيته التي عرضت يوم السبت 11 فيفري بفضاء كارمن، على الاسلوب الكوميدي الذى يشابه في الكثير من الاحيان “الكوميديا السوداء”. تطلع عليك هذه السيرة بلغة بسيطة تجعلك تضحك حتى الألم. يورّطنا عمار في لعبته المسرحية وفي الدخول الى مأساته مستخدما صيغة ادائية تعتمد على الجسد، فالجسد يعوض اللغة ويرمز الى الصراع مع هذا المرض، الجسد  في هذا العمل هو المعوض المتميز للحوار. كما اعتمد في عمله المسرحي  على ثنائية الظلّ والنور وكذلك على فنّ الإضاءة التى كانت بين الخافتة والساطعة والمنعدمة احيانا تماشيا مع النص والحكاية وفي كل ذلك مستعملا لغة حوار بأسلوب هزلي موجع.

 المسرح التجريبي

لا تخضع هذه المسرحية الى شروط المسرح التقليدي بل تعتمد على الطابع التجريبي الذى يعتمد على مسرح الممثل الشبيه في وقت من الأوقات بمسرح المقهى حيث يكون الممثل هو المركز ويدخل في كثير من الاحيان في حوار مع المتفرج، فهو قريب منهم.

وقد نجح عمار اللّطيفى في شدّ المتفرج بأسلوبه المتميز في تفاعل الجمهور معه وذلك بقدرته على الابهار بتطويع جسده و تحريكه على خشبة مسرح تكاد تكون خالية من الديكور باستثناء بعض الادوات السينوغرافية البسيطة ولقد وظّف عمار كلّ الفنون الفرجوية الأخرى حيث تلتقي على خشبة المسرح كل الفنون من سينما وصورة وموسيقى تصويرية وغناء ورقص.

تنغلق المسرحية في نفس ركن البداية بإضاءة أقوى، تضيء كامل الجسد الذى كان في وضعية ارتياح هذه المرة يأكل الجزر وعلى وجهه ابتسامة صفراوية ساخرة هو الوحيد في النور وكامل المكان والجمهور في ظلام حالك فكأنما بعمار اللطيفى بعد هذا البوح يصل الى المعنى..  فبرغم مأساته مع المرض يقول في أعماقه وكما قال من قبله “ساراماغو” في روايته العمى “ليس هناك أسوأ من أعمى يرى ..

المصدر/ الجمهورية

محمد سامي / موقع الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *