مسرحية ‘تصليح الأحياء’ مغامرات قلب متنقل بين الجسد والروح

 

أبو بكر العيادي – العرب 

“تصليح الأحياء” عنوان رواية متميزة للكاتبة الفرنسية مايليس دو كرَنْغال، عن رحلة تمزج الواقع بالخيال، حوّلتها كاتيل كييفيري إلى شريط سينمائي ناجح، ثم أخرجها للمسرح إمانويل نوبليه باقتدار نال عنه مؤخرا جائزة بومارشيه لأجمل عرض، بالتساوي مع “غرفة في الهند” لأريان مانوشكين، بعد تقديمه مؤخرا في “مسرح المدينة” بباريس.

تقوم مسرحية “تصليح الأحياء” لإمانويل نوبليه على نص روائي عميق للروائية الفرنسية مايليس دو كرَنْغال التي فازت بعدة جوائز أدبية أهمها جائزة ميديسيس، أولا من حيث بعده الإنساني، والقيم التي يروم تبليغها، ثانيا من حيث بناؤُه الفني المحكم، ونسيجه السردي الشائق، رغم أن الموضوع دقيق يمكن أن يوقِع غيرَ المتمكن في ميلودراما تلفزيونية رتيبة، إذ إن مداره حادث مرور فظيع يُنقل إثره المصابون إلى قسم الطوارئ بمدينة لوهافر الفرنسية المطلة على بحر المانش، فيشخّص الأطباء وفاة أحدهم دماغيا، ويقرر أهله عندئذ التبرع بقلبه لامرأة على فراش الموت.

وهذه اللحظة الفارقة بين الحياة والموت، بين حال شاب يسير به قدره إلى حتفه وحال امرأة لا تزال تتمسك بالرمق الأخير، هي التي توليها الكاتبة عنايتها لتتحول الرواية إلى سعي لاهث لإنقاذ القلب قبل هلاك صاحبه تماما، وزرعه في جسد المعتلة كي تتعافى، في زمن لا ينبغي أن يتعدى أربعا وعشرين ساعة، كما أكد الأطباء المتخصصون، وإلاّ صارت عملية الزرع غير مجدية.

كل ذلك من خلال رحلة عجيبة يسردها ذلك القلب المتنقل من جسد إلى جسد، ومن وضع فتى يافع يدعى سيمون لا يتعدى التاسعة عشرة من عمره إلى قلب سيدة في الخمسين تدعى كلير، والمهاجر من منطقة إلى منطقة أخرى، فيغدو الارتحال نشيدا لأجل الحياة عبر سباق ضد الساعة يخضع فيه الجميع إلى تنسيق دقيق لبلوغ الغاية، ولكنه ارتحال سيهز أطرافا كثيرة.

فحول هذه التراجيديا، تدور العواطف النبيلة ومشاعر الحب بدرجاته، كحب الوالدين لابن وحيد، وحب سيمون لجولييت، وحب كورديليا لعشيقها، فضلا عن الصداقة بين هواة السُّرْف الثلاثة، وشغف الجراحين بمهنتهم، ومحبة توماس لأبويه، ولكن أهمها هو ذلك السخاء المطلق، حين نتعاطف مع متلقّ دون أن نعرف هويته، فالرهان الإنساني الأكبر هو مسألة الحياة أو الموت التي تحدو سلسلة من الشخصيات، في وحدة زمنية مضبوطة تضفي تشويقا حادا على الدراموتورجيا.

نص روائي عميق من حيث بعده الإنساني، علاوة على بنائه الفني المحكم، ونسيجه السردي الشائق رغم دقة موضوعه

فكيف يمكن أن نجعل من نص سرديّ ثيمته الأساس تحويل ألم مطلق إلى فرحة محتملة باستعادة الحياة، وعبور من الموت إلى الحياة، عملا مسرحيا يشدّ الانتباه، لا، بل يلقى استحسان الجمهور؟

اعتمد المخرج على سارد (أدّاه بنفسه) ليس له من سند غير الخشبة وكرسيين ولحاف، وعلى ممثل يقف على بساط متحرك ويعدد الأدوار ويحافظ على التوازن الماثل في الرواية، في موضع بين الانشراح والعبوس، بين الحياة والموت.

ولما كانت الرواية خالية من بطل محوري، عدا قلب سيمون، فقد استعان المخرج بصور في الخلفية توضّح ما يحيا داخل جسم الإنسان، من الدورتين الدموية والرئوية إلى الملامح الخارجية مرورا باقتران الصبغيّات وتدفق الطاقة.

ولكن ما يشدّ المتفرج في المقام الأول هو مزج المشاعر الحميمة بمغامرة جماعية كريمة ونبيلة، عبر منح شيء من الطاقة الحيوية لمقاومة اليأس، وخلق لحظة عزاء وسلوان من رحم الألم كدلالة على ذكاء شريحة من المجتمع، تفضل الانفتاح في وجوه الآخرين حتى في أحلك الظروف، على الانكفاء والتقوقع، فالسلوك السليم كما يقول تشيخوف في مسرحية “بلاتونوف” هو “دفن الموتى، وتصليح الأحياء”، وهي المقولة التي استمدت منها مايليس دو كرَنْغال عنوان روايتها، الصادرة عن غاليمار عام 2014.

وفي هذا الاقتباس الذي أعده سيلفان موريس عن الرواية الأصلية، يسكن فانسان ديسّيه النص بعمق نادر، وقواه ملتمة داخل جسد ناشف مرن يحاول الإبقاء على توازنه في آخر لحظة على بساط متحرك تحت قدميه، ذلك أن سرده في ممر ذي أرضية زلقة يجد صداه مع الموضوع، أي سباق ضد الساعة، بالدقيقة والثانية، لإنقاذ قلب المتزحلق الشاب الذي لقي حتفه دماغيا كما أسلفنا، وبين وجهات نظر الفريق الطبي وموقف الأسرة، يتنقل ديسّيه بغير انقطاع من سرد الحياة إلى سرد الموت، في توازن مفارق مؤثر، فيمنح النص بعده الإنساني العميق، مستعينا في أدائه بالموسيقي جواكيم لاتارجيه عازف القيثارة والترمبون.

ويقول المخرج إمانويل نوبليه “أن يتبرع الإنسان بعضو، فذلك معناه مواجهة كل الرموز التي يحمّلها إياه المجتمع، والمعتقدات والأساطير الفردية والجماعية التي تنزّل القلب منزلة خاصة، بخلاف الكلى والرئة مثلا. والمشكل الحساس هنا هو القرار الذي يتخذه أقارب هالك لم يُستشر في حياته، وهو كذلك السؤال الذي يلقى عليهم وهم في حال من اللوعة والأسى، ليعطوا إجابة بعجالة أمام جسد مسجى، هذه الوضعية تطرح في الواقع قضية مجتمعية، أن نهب الحياة، أو الأمل في الحياة، أن نعطي شيئا ثمينا بلا مقابل وبشكل مجهول، هو نوع من الأثرة المطلقة، البطولية والسرية، التي تخالف تماما ما يزفره المجتمع يوميا”.

———————————————————

المصدر : مجلة الفنون المسرحية 

http://www.alarab.co.uk/

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *