مسرحية بيس تعّري القبح الساكن فينا …

هل تساءلت عن مدى ميلك إلى العنف؟ هل اعترفت يوما انك عنيف وتزين عنفك باقنعة واهية؟ هل تساءلت يوما عن سر غضبك واليات التصعيد واختلافها؟ هل وقفت يوما أمام مرآتك وتحدثت معك بصوت عال عن العنف والظلم والضيم

و السب والشتم؟ هل عنفت احدهم وسالت نفسك لماذا؟ وهل عُّنفت يوما؟ اسئلة كثيرة تدور في عالم القبح سالتها سنية زرق عيونة في مسرحية «بيس».

بيس ولعبة القبح أو مسرح القبح كما يسمى هي غوص في قبح الذات الانسانية مع نفسها والاخرين، تجريد للانسان من كل الجماليات و الاقنعة التي يستعملها وتعريته ووضعه وجها لوجه امام سوداويته وميله الى العنف، ساعة و10 دقائق كانت مليئة بعبارات شديدة القبح ومشاهد مقززة عبّر عنها بلغة جميلة وجمل سلسة فالعنف لا يمكن ان يستبعد من العمل الفني بل انه كثيرا ماكان قوة اضافية في هذا العمل وعاملا مهما في اثارة متعة جمالية « كما قال الفيلسوف ولتر ستيس.

هل جميعنا أسوياء؟ كلا، فالعنف رديفنا
ظلام دامس يسيطر على المكان، شجرة في الركن الايسر، ضوء اخضر ينبعث من الجانب الايمن، خلفية يملأها الضباب لدرجة شعور المتفرج باللامتناهي والعدم، موسيقى هادئة كانها توقظ الموتى من سباتهم، يشتعل الضوء تدريجيا ويبقى أصفرا مائلا إلى البني ليكشف عن اربع كتل بشرية نائمة لا تظهر ان كانت لنسوة او رجال، نائمون او هم موتى على ارضية خضراء واوراق الشجر تحيط بهم من كل جانب كانها تحميهم من برد متوقع هم كأهل الكهف، في سباتهم ، دقائق ويستيقظ الموتى من سباتهم ويكون السؤال الاول «أموتى نحن ام نائمون، أفي يقظة أم في حلم» يجلسون القرفصاء، لكل مظهره وسلوكه ونظراته، وتنطلق الحكاية او «راس الفتلة» كما يقولون.

لكل قصة مخالفة للاخر، في «بيس» الكل يحكي عن مشاكل الكل، لاوجود لجزئيات ،جمل مقطعة وادوار مقسمة وكان بالفرد يعرف جزئيات الجميع، والمجموعة مطلعة على تفاصيل الفرد، لكل منهم حكايته الخاصة ووجيعته الذاتية وبكاءه وألمه وترحه، كره للام وعنف تجاه الاب وازدراء للاخرين وياس من الاصدقاء والموجودين، بين الوجيعة والوجيعة توجد شلالات دموع مخفية واهات تحترق وتحرق معها نفوس اصحابها، اربعتهم عانوا هم نسخة عن «الانا» و «الانت» و «الهم»، انموذج عن العائلة المفتتة والصداقة المهشمة والدولة المحطمة والنواميس البالية والقيم الصدئة، في «بيس» لن تستطيع تنفس هواء نقي فالمتفرج سيختنق بثاني اكسيد الاغتصاب والقتل والعنف ، ولن يعرف طريق الخروج بسلاسة ويضيع في ازقة التجريح والشتم، وكل مرادفات العنف الموجودة في النص.

في المسرحية الديكور جد بسيط ربما هو ضمن المسرح الفقير الذي لا يعتمد الكثير من المؤثرات، ميزة العمل الضوء، ضوء خافت يكشف نصف جزئيات الوجه ويكشف الجزء الاخر وكان بالضوء جزء من اللعبة الدرامية ومحرك للاحداث او هو كناية عن الجانب المظلم الموجود عند كل انسان.

صراع القبيح والاكثر قبحا داخلنا هو محور العمل، ففي كل نفس هناك جانب سيء نريد اخفاءه بمحسنات بديعية ولكن المسرح عراها على الركح وان كان مسرح القبح غير مقبول من الجمهور لعرضه للتشوهات الساكنة في الانسان خصوصاً وأن هذا النوع من الكتابات يصدم المتلقي ويُعتبر محرّماً، لشدة حساسيته، ولا يستطيع تحقيق رواج سهل بين العامة حتى وإن كان على مستوى عال من اللغة والإبداع كما كانت اعمال سارة كين.

على الركح ولمدة تتجاوز النصف ساعة لا يغير الممثلون اماكنهم، يحكون، يتصارعون، يتحدثون عن الهم والآخر، عن الموت والحياة ، الشهوة والجسد، الروح والحب والكره « كيفاش تسمع تنهيدة النفس المخنوق، كيفاش ترى دمعة العين الشايحة، كيفاش تحس حركة البدن الجامد، مالولادة للموت تحفيجة، و مالحبة للكره تنهيدة، ومالعقل للهبال ترهويجة، اما منك ليك شكون يعرف»، ومن يعرف كم يلزمه من الوقت والوصف ليرف ذاته وخباياها، اسلوب سلس وجمل انيقة عبروا بها عن القبح كما قال الفيلسوف الجمالي جور سانتيانا « يفضل عرض الواقع القبيح في شكل ، فليس من جميل عن العرض الجميل للجمال المجرد « كذلك كانت بيس تعرية للقبح باجمل العبارات.

من القبح يولد الجمال
من القبح يولد الجمال كزهرة وسط القمامة قولة تنطبق على مسرحية «بيس» من وسط اكوام العنف التي تناولها العمل ومنها الاغتصاب والقتل والمعاملة السيئة للابناء وكره البنت لامها والموت الذي يسرق منا المقربين و الانتحار بكل اشكاله اذ خصص اكثر من ست دقائق للحديث عن وسائل متطورة للانتحار وكل يقدم وسيلة اكثر دموية ويراها الانجع وكاننا بهم يتحدثون عن اميرة مسرح القبح سارة كين التي اختارت ان تنهي حياتها بشنق نفسها برباط حذائها وتجسد للبشاعة الموت التي تحدثت عنها في اعمالها.

«بيس» هي قصة التونسيين جميعا، حكاية الغني و الفقير، العامل والعاطل، الكادح الذي اسودت سواعده وعرقه لم يجف بعد، هي قصص البشاعة التي نشاهدها في برامج تلفزيون الواقع ونقرؤها في ركن الحوادث والقضايا في الصحف، «بيس» قصة العنف والتعنيف والنزعة اللانسانية الموجودة فينا وان زينت ببعض البلاغة و البديع والكناية والجناس يظل جزء منها كنمر شرس ينتظر لحظة غضب ليخرج من سباته.

في المسرحية يتحد عنف الحقيقة ووجع الوجع ، هذيان الحكمة وصمت الحركة، عويل العجز و جفاء الأمل، الرّيق وقد جفّ الحبّ وقد تشيّأ العري وقد غدا لبسا والموبقات تبدو مخرجا و الزّمن وقد جمد و أحلامنا تنهدّ والأفق يكفهرّ على اكفهراره و الحرّ قنّاص و لا شمس، شبابنا يغرق ويتلاشى والامل قاتله، هدوء مخدر ولا حركة الا وقوف فقعود فعود الى الرحم.

في المسرحية حكايات كثيرة وشخوص عديدة، نقد لوضع مستشفياتنا «يدخل على ساقيه ويخرج على كرسي متحرك»، ونقد لحال الكادحين «حال الخدام اللّي بدنو أسود وعرقو ما جف» و نقد لعلاقة السلطان بالشعب «كيف اعيش في بلد سلطان الغلة فيها (الهندي)»، وغيرها من المواضيع تمس واقع التونسي قدمها الممثلون الاربعة بحكبة واتقان.
فالقبح اكثر من مجرد وهو نقيض للجمال كما يقول امبيرتوايكو وما قدم على الركح ليس مجرد كلمات عنيفة دون رسالة.

وكما سبق الذكر فان مسرحية «بيس» كتابة جماعية عن فكرة لسارة كين، وقد ولدت كين في عائلة متشددة دينياً. درست الدراما في جامعة بريستول وعملت ممثلة لفترة من الوقت قبل الانهماك في كتابة المسرح.

وكتبت سارة ست مسرحيات، قبل انتحارها شنقاً بأربطة حذائها في عمر الثامنة والعشرين في صباح من صباحات العام 1999.
ومسرحيات «كين» هي: «البغيض»، «عطش»، «نهم»، «تطهير»، «عشق فيدرا» والأخيرة «ذُهان» التي كتبتها قبل انتحارها بوقت قصير.

رغم قلة أعمالها وحياتها القصيرة، إلا أنها اعتُبرت الوليدة المرعبة للمسرح البريطاني، وانتشرت مسرحياتها رغم ما تحمله من فوضى وسرد متقطع ومشاهد قبيحة واستفزازية، مساهمة في تغيير شكل المسرح في أوروبا بشكل عام في القرن العشرين، بإخراجه من النمطية والمتداول إلى المختلف، ومجسدةً ثقافة القاع والواقعية الفظة، ومعرِّية المسرح من قيوده التقليدية» كما كتب في جريدة الحياة اللبنانية في اكتوبر 2014.

«بيس» تشبع فيها الممثلون بسوداوية كتابات «كين» وظلام بعض المشاكل في المجتمع التونسي فمزجوا كلا الظلامين ليقدموا مسرحية عنيفة في نصها ورسالتها هي بمثابة الرجة التي تجعل المتفرج يقف طويلا امام مرآته يسائل ذاته ويقارن بينه وبين بقية الشخوص ويحاول البحث عن مواطن السواد عله يطمس جزءا منها.

الجذاذة الفنية لـ«بيس»:

• كتابة جماعية عن فكرة لسارة كاين

• اخراج: سنية زرق عيونة

• انارة: نور الدين العاتي

• مساعدة الاخراج: منى بن الحاج زكري

• توظيب الركح: مهدي الانصاري.

مفيدة خليل
http://www.lemaghreb.tn/

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *