مسرحية “بعد النهاية” / د. منتجب صقر

تعرض مسرحية “بعد النهاية” للكاتب الانكليزي دونيس كيللي (Dennis Kelly) وإخراج بابتيست غيتون (Baptiste Guiton) على خشبة المسرح الوطني الشعبي في ليون (TNP de Lyon) في شهر شباط الحالي 2019.

في هذا العرض الذي يستمر لمدة ساعة ونصف هناك شخصيتان: لويز ومارك ينجوان من انفجار نووي. أنقذ مارك لويز ونقلها إلى ملجأ تحت الأرض، تحت أنقاض مبنى ضخم حوله الانفجار إلى رماد. لا تملك هاتين الشخصيتين سوى بعض المؤونة الكافية لأيام قليلة في خضم فوضى في المكان وضياع في الأفق فالأحداث لا تزال درامية في الخارج وبالتالي فإنها تنعكس على نفسية الشخصيتين وتجعلهما في حالة قلق دائم. كل واحد منهما يحاول التعلق بالحياة لينجو بنفسه. الأقوى هو الذكر مارك الذي يخبئ مؤونته داخل صندوق حديدي ويمنع لويز من الأكل إلا إذا رضخت لشروطه ونفذت رغباته. وهنا يحتل الصراع والمواجهة العرض ويتحول الحوار إلى تحدٍ مستمر بين الاثنين. يريد مارك أن تلعب لويز لعبة القصر المهجور وترفض هي فيمنع عنها الأكل والشرب حتى تقبل وحينها يتحول إلى راوٍ ويقدم مسرحية ضمن مسرحية تقوم على مبدأ الحكواتي فبينما يروي أحداث القصر تقوم لويز بتمثيل تلك المقاطع التي يقصها. رغم أن الشخصيتين لم يتعرفا على بعضهما البعض من قبل، إلا أن نوعاً من الصداقة غير المعلنة بدأت ترتسم ملامحها بينما، لكن مارك يحاول أن يهيمن على شخصية لويز يريد أن تعترف لها بحبه، هي التي ترفض وتقترح عليه الصداقة فقط، وككل مشهد فيه ابتزاز ومحاولة ضغط يقوم مارك بمنع الطعام والشراب عنها حتى تقبل لكن هذه المرة الأمر يتعلق بالحب والمشاعر التي لا يمكن فرضها. وهنا تحتد المواجهة ويصبح العنف سيد الموقف فيقيد مارك لويز بسلسلة حديدية ويعنفها بأقسى العبارات. هي التي تنكمش على نفسها وتحرر نفسها في غفلة منه متناولة سكيناً كان يقطع طعامه بها فتشهرها نحوه وتنجح في تحرير نفسها وتناول بعض الكسرات من الطعام. في هذا العرض المشحون بالخوف يبدو أن الهوية معرضة للانكسار أو لإعادة التشكيل، فالانسان ما إن يتعرض لمأساة تهدد وجوده حتى ينسلخ عن هويته ويعود لغرائزه محاولاً التعلق بالحياة حتى ولو على حساب غيره وبعبارة أخرى إن الشعور بالخوف والقلق يجعل من الانسان حيواناً يتصرف بوحشية مشبعاً غرائزه المتمثلة بالأكل والشرب والنوم. وهنا ينتقد الكاتب الانسان المعاصر الضيق الأفق، ينتقد حكومات غربية تجوع شعوب أخرى كإفريقيا مثلاً في إشارة واضحة إلى لعبة حبس الطعام بين الشخصيتين وانعكاسها المعاصر. تبدو المسرحية كحوار بين شخصين نجيا من الموت، ذكر وانثى يجسدان الأزواج التي نجت في سفينة نوح. شخصان يفشلان في التواصل بعد الانفجار على عكس ما يقوله منطق الحياة في ضرورة العيش المشترك فهما يتعاملان وفق منطق التحدي الذي يفرضه مارك الذكر الأقوى الذي يعرف المكان ويملك الطعام والشراب.

إن ما ينقذ المسرحية ليس الحوار الذي يبدو عادياً ومطروقاً في الكتابات المسرحية الغربية المعاصرة، بل لعبة الممثلين الذين لم يتركا لحظة فراغ على الخشبة ونجحا في شد اهتمام وانتباه المتفرجين طيلة ذلك الوقت، الأمر الذي أعطى للعرض طابعاً حركياً أدائياً وشحنة طاقة كبيرة فالممثلة التي تؤدي شخصية لويز لم تتواني عن ذرع الخشبة ذهاباً وإياباً متحدية الشخصية الأخرى في جو من اللاتواصل الكلامي واللاتواصل الجسدي، وهما يتحركان في سينوغرافيا تجسد أقواس حديدية تعكس بنية النفق الأرضي الذي يلتجآن فيه وهذا الخيار السينوغرافي يتفق مع روح العرض فهو يضع الشخصيتان في حالة تعلق في الفراغ، يفتح أفق المكان ولا يحدده في زمن ومكان معين. وعلى طريقة مسرح صمويل بيكيت الذي يجعل من شخصياته تتحاور في مكان مفتوح الأفق وغير محدد المعالم، لا ندي أين تحدث هذه المواجهة بين شخصيتين فالنص يقول أنها يتجتمعان بعد انفجار نووي غير محدد. وهنا يبدو أن فتح النص على زمن غير محدد ومكان غير معرف يبدو هاجساً عند الكتاب المسرحيين الغربيين كي تأخذ نصوصهم طابعاً عالمياً يجعل من عرضها ممكناً على أي خشبة وفي أي بلد.

_____________

المصدر / محمد سامي موقع الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *