مسرحية المجنون للمخرج محمد العامري: إذا خاطبتكم المحبّة فانظروا إليها وضمّوها / مفيدة خليل

من المجنون؟ أهو الباحث عن تفاصيل الصدق داخله؟ هل المجنون من يريد تنفيذ قواعد الإنسانية

ونشر المحبة وإرساء وطن تسكنه الطمأنينة والحب والصدق؟ هل المختلف عنّا هو المجنون هل من يريد العيش بطريقة خاصة به تعتبره المجتمعات العربية مجنونا؟ أسئلة يطرحها المخرج محمد العامري في مسرحية «المجنون» المشاركة في المسابقة الرسمية لأيام قرطاج المسرحية.
«المجنون» مقتبسة من رواية جبران خليل جبران وكتابة السيناريو لقاسم محمد وتمثيل عبد الله مسعود ومروان عبد الله وحميد سمبيج وعذارى ويوسف الكعبي وهيفاء العلي ويجسّد الذوات كلّ من ناجي جمعة وحميد محمد ومحمد عادل وعثمان عبيد وماجد المازمي وعبد الله الهاشمي وموسيقى لابراهيم الابراهيمي وتصميم الماكياج لياسر سيف، عمل مهدى الى روح الكبيرين جبران خليل جبران و قاسم محمد.

الجنون تهمة الصادقين
الكون نقطة والزمان شعاع والحياة القادمة نطفة لم تتشكّل بعد بهذه الكلمات يفتتح الممثل نصّه، ركح داري، مجموعة من الشخوص تلبس البلوزة الطبية البيضاء، يدورون حول الركح وحول أنفسهم، ضوء احمر يسلّط وسط الركح، ضحكة هستيرية تعمّ الارجاء فشخص يلتحف برداء رمادي يخرج الى المتفرج ويطرح السؤال « هل هو مجنون ام يدّعي الجنون، من هو ليحاول تغيير مسارات الكون؟».

أحداث المسرحية مقتبسة من نص المجنون لجبران خليل جبران وتحمل نفس الاسم، عنوان العمل لا يحتمل التأويل فمعناه واحد هو فاقد العقل والصواب، في المسرحية تتعدّد الشخوص، شخصيات دون أسماء باستثناء «المجنون» وحده من ينعت بصفة ما امّا الاخرون فدون هوية او صفة وكأنهم تعبيرة عن البشر الذين يولدون ويموتون دون ترك أثر.
في تلك الحلقة الدائرية، تطرح العديد من الأسئلة، كلّ منهم يحتل منصب القاضي أسئلة يريدون لها أجوبة فورية فلا تعرف نفسك ان كنت في محكمة او في مشفى او في فضاء مطلق لا حدود له.

تتصاعد الاحداث ويكون لشخصية المجنون (مروان عبد الله صالح) نصيب الأسد من الاحداث فهو الذي يسيّر خيوط اللعبة وهو من يتحكّم في مسار الحكاية، هو المجنون و العاقل معا، هو زارع النور وباعث الظلام معا هو الحالم و اليائس في حين هو العقل والغباء في نسخة واحدة، هو «الانا» و«الانت» في بهائك وقبحك.
أسئلة عديدة يطرحونها ومع كلّ سؤال تتغير ملابس الشخصيات والوضعيات، أسئلة عن الانسان، عن المبادئ، عن الحقائق عن انكسارات الأفعال الإنسانية وشظايا الاعتبار وبقايا الذاكرة ، سؤال عن الطريق وهل وجب ان يكون واضح المعالم لنكون على حق ام « ليس بالضرورة ان تكون الطرق الواضحة هي افضل الطرق» كما تقول الشخصية.
جنون مقيت، أسئلة قاتلة تبعث في المشاهد الرغبة في الصراخ وتمزيق كلّ الجدران والقيود التي تكبّلنا عن ممارسة انسانيتنا بعيدا عن الأقنعة والحواجز، أسئلة جنونية أحيانا ولكنها صادقة وحقيقية تنتشلنا من قيود وضعناها لأنفسنا قيود العقل والجسد والظلام والشر والخديعة والمديح أسئلة تؤرقنا وتدفعنا للتخلص من العقل كما تخلص المجنون من اقنعة ذواته السبع.

«المجنون» مسرحية ناقدة موجعة، عمل يعرّي بؤسنا وزيفنا عمل يغوص في تفاصيل البشر وينزع عنهم اقنعة الصدق ليظهر رياءهم، مسرحية تنبش في ذاكرة الألم الذي نخفيه في دواخلنا وتحاول اخراجه بكلّ قبحه علّنا نتصالح مع ذواتنا، مسرحية تشكّك في الجميع، في الطبيب والقاضي والحكيم وكلّ من يدعي الصدق ويتظاهر بالعظمة وفي الحقيقة يخفي رغبة دفينة في الظلم والشر وحقدا دفينا لكلّ مختلف عنه.

«المجنون» مسرحية للإنسان، عمل دون أسماء شخصيات تتحرك لتكون جزءا من المشاهد فحتما ستجد نفسك بينها، سترى ملامح وجهك مرسومة في عيني إحدى الشخصيات وترى افكارك في منطوق كلامها، عمل ينقد الموجود، يفنّد شعارات الحرية والصدق ويكشف زيفا نعيشه ومظاهر نلبسها لنصبح عراة متى نزعت عنّا، عمل يدعو البشر ليكون انسانا، يمسح ادران الموجود ويحاول رسم ملامح أخرى اكثر نقاء.
مسرحية تفنّد فكرة قبح الجسد وترتقي بجمالية الروح ، عمل يدعوالى نفض غبار الياس وزراعة تباشير الامل فينا» سيكون لي أبناء واحفاد من ضوء وظل، سيرتدون ثوب الفجر ولون البحر ورائحة المطر وستشرق فيكم وسيكبرون مع الأشجار والحقول والظنون والندم».

السينوغرافيا تنحت ملامح الجنون فينا
المسرح إبهار، المسرح صورة وفرجة و السينوغرافيا مقوّم اساسي من مقوّمات نجاح العمل المسرحي، وفي «المجنون» أبدع السينوغراف والماكيور ياسر سيف في كتابة تفاصيل جمجمة المجنون و دماغه، ابدع في نحت الملامح إلى حدّ ابهارك وتصديقك انّ ذاك الدم حقيقي، امام المتفرج رجل ضخم، الدماء تضرّج جسده و بقية جراح لم تندمل بعد هي جراح الإنسانية الغارقة في الألم، جراح اوطاننا العربية، جراح الانسان داخلها جراح جبران خليل جبران الذي كتب لاجل انتشار الحب والفضيلة، جراحك امام مبادئك وجراحي امام هناتي وزلاتي جراحنا جميعا امام انفسنا، جراح ابدع الماكيور في تزيينها ورسمها لتبدو كأنها حقيقية جدا.
في «المجنون» كلّ مكونات العرض تكون عنصرا أساسيا من الحبكة الدرامية والركح الدائري كما دورة الحياة، السواد والبياض شأن ثنائية الخير والشرّ، الضوء الأحمر كما دماء متدفقة تملأ المتفرج بأسئلة عن سر تقديس البعض للحروب وللدموية.
الركح مقسم إلى أجزاء فلا تعرف متى ينفتح جزء ما كخزانة الجدة لتبوح بسر ما، في «المجنون» لجمالية السينوغرافيا تأثيرها في قوة مشهدية العمل، السينوغرافيا من الضوء الى الديكور الى الماكياج الى الملابس التي تتغير بتغيّر الاحداث أحدثت الفارق في العمل، السينوغرافيا بكلّ تفاصيلها رحلت بالمشاهد الى عالم الجنون الى عالم الضياع بين العقل والجنون، بين الحقيقة والسراب.

بالماكياج والضوء كتب السينوغراف والمخرج خفايا الشخصيات وكشف زيفنا أحيانا في تعاملنا مع الاخر، نقدنا من الداخل ودفع المتفرج ليشاهد قبحه بأمّ عينيه ويدعوه إلى التصالح مع ذاته ويقبل اختلاف الاخر فالمجنون عمل يؤسس للانسانية والصداقة عملا بمقولة ايزابيلر هيوبرت «المسرح بالنسبة لي يمثّل الاخر، هو اللغة بيننا، المسرح هو غياب الكراهية علينا ان نبدأ بالصداقة بين الشعوب وحالا».

المخرج محمد العامري في اسطر

ممثل ومخرج إماراتي، ولد سنة 1971، شارك في العديد من المهرجانات المحلية والعربية والدولية، ونالت مسرحياته عديد الجوائز، كما حاز على جائزة أفضل مخرج أكثر من مرّة, وله بصمة واضحة في تطور المسرح الإماراتي. بالإضافة إلى التمثيل والإخراج.
مارس محمد العامري العمل في الإضاءة والديكور وحصد جوائز عديدة كأفضل إضاءة وأفضل ديكور وأفضل «سينوغرافيا»، وذلك في أكثر من عمل مسرحي وأكثر من مهرجان، ولُقب بـ«مجنون المسرح» لإبداعه وشغفه في المسرح، ومن أبرز أعماله المسرحية «صهيل الطين»، و«بالأمس كانوا هنا» و»اللوال» و«حرب النعل». ومن أبرز أعمالة التلفزيونية «حاير طاير» و«بنت الشمار» و«شمس القوايل» و«الكفن» و«ريح الشمال» و«دروب المطايا» و«جمرة غضى» و«بحر الليل».

_________________

المصدر / المغرب

موقع الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *