مسرحية ‘القلعة’ تجمع العراق والكويت مرة أخرى

_95367_i3

مهدت تجربة المخرج المسرحي الكويتي سليمان البسام المعنونة بـ”ذوبان الجليد”، والتي قدمها منذ ما يزيد عن العقد، الطريق للقاءات مسرحية عديدة بين مؤلفين عراقيين ومخرجين كويتيين، من خلال ثلاثة نصوص مسرحية لعبدالأمير شمخي هي “الهشيم” إخراج فيصل العميري (2005)، “نساء بلا ملامح” إخراج عبدالعزيز صفر (2008)، و”طقوس وحشية” إخراج علي الحسيني (2011)، ونصين للراحل قاسم مطرود، الأول بعنوان “الجرافات لا تعرف الحزن” إخراج علي الحسيني (2005)، والثاني بعنوان “صدى الصمت” إخراج فيصل العميري (2015)، الذي فاز بجائزة مهرجان المسرح العربي في دورة العام الحالي.

الأول والآخر

اختار المخرج علي الحسيني في عرضه الجديد، الذي أنتجته فرقة المسرح الكويتي، وعُرض في مهرجان الأردن المسرحي الثالث والعشرين، نصا عراقيا ثالثا لعبدالأمير شمخي أيضا هو “القلعة”، وسبق أن قُدّم العرض في الدورة الـ16 لمهرجان الكويت المسرحي وفاز بثلاث جوائز.

يتداخل في النص المنحى الطليعي (العبثي) والمنحى الرمزي والمنحى التجريدي، من خلال رحلة في سيارة يقودها شخص يُدعى “الآخر” (مثّل دوره عبدالله التركماني) يرافقه فيها شخص يُدعى “الأول” (مثّل دوره فيصل العميري) إلى مدينة لم يعد لها وجود، في خطة لا نعرف أنها مدبرة إلاّ لاحقا.

تكشف هذه الرحلة، عبر حبكة درامية أقرب إلى الحبكة “البوليسية”، عن الجرائم التي ارتكبها “الآخر”، تنفيذا لأوامر سيده القابض على سلطة استبدادية غاشمة دمّرت المدينة وجعلتها خرابا ومقبرة جماعية، وهو شخص يحيل على نماذج كثيرة من الطغاة في العالم، الذين أوغلوا في سفك دماء شعوبهم.

يظهر “الآخر” بوصفه أداة وجلادا أدمن على القتل حتى فقد إحساسه بأنه إنسان ينتمي إلى المجتمع البشري، لكنه يعترف في لحظة ضعف وخوف من الموت بأن هناك من يفعل ويجب إيقافه، وليس الشيطان من كان يدفع به لارتكاب الآثام، وثمة ما يماثل هذه الشخصية في العديد من النصوص المسرحية العالمية.

“القلعة” في المسرحية علامة رمزية تشير، بالإيحاء، إلى مدلولات عديدة، منها المنعة والقوة والحصن ووكر العقاب

إن الجرائم البشعة التي تقف عليها المسرحية يُميط اللثام عنها “الأوّل” تدريجيا من خلال حنكته وذكائه في استدراج “الآخر”، وكان “الأوّل” مدرّسا مفصولا ومشرّدا، ومعتقلا تعرّض إلى أصناف من القمع، وفقد زوجته.

يقول عن نفسه إنه أنموذج حي لأولئك الذين يصارعون طوال العمر، ثم في النهاية لا جديد، ويشبّه نفسه بعامل وضعوا على ظهره أحجار بابل كلها، ويمكن تشبيهه من جانبنا بسيزيف في الأسطورة الإغريقية، الذي أغضب كبير الآلهة زيوس فعاقبه بأن يحمل صخرة من أسفل الجبل إلى أعلاه، فإذا وصل القمة تدحرجت إلى الوادي، فيعود إلى رفعها إلى القمة، ويظل هكذا حتى الأبد، فأصبح رمز العذاب الأبدي.

ووجه الشبه بين “الأوّل” وسيزيف أن “الآخر” عارض الحاكم المستبد فتعرّض إلى العقاب أيضا، وهو يتفلسف أحيانا، فيقول “حين تمطر السماء دخانا وبارودا تكثر الحفر في الجنائن المعلّقة.. تكثر بشكل جنوني”، في إحالة إلى ما حدث في العراق، حيث ملأت الحروب أرضه بالمقابر، وكانت مآلات البارود والدخان دماء غزيرة جرت فيه منذ العام 2003 حتى فاضت على أجزاء أخرى من الأرض العربية.

إن شخصية “الآخر” رديفة للجماعات المتطرّفة التي تقتل وتذبح الأبرياء بوحشية في أكثر من بلد عربي، والعاصفة التي يجري التركيز عليها في المسرحية هي علامة رمزية مهيمنة، بالمفهوم السيميائي، تشير إلى الدمار والخراب اللذين يكتسحان عالمنا العربي من جراء العنف والحروب وحماقات الحكّام الطغاة.

وكان من المحتّم أن تفعل العاصفة فعلها بأن تشطر السيارة التي تقلّ “الأوّل” و”الآخر” وترميهما في المقبرة، هذا الانشطار الذي نلمسه في واقعنا بين قوى الخير والشر، بين الحالمين بحياة إنسانية آمنة ونظيفة من جهة، وصانعي الموت وكارهي الحياة من جهة أخرى.

الجرائم البشعة التي تقف عليها المسرحية يُميط اللثام عنها ‘الأوّل’ تدريجيا من خلال حنكته وذكائه في استدراج ‘الآخر’

ثنائيات متعاكسة

“القلعة” علامة رمزية تشير، بالإيحاء، إلى مدلولات عديدة، منها المنعة والقوة والحصن، وهي في المسرحية ذلك الفضاء المعادي، ووكر العقاب الذي تُنتهك فيه إنسانية الإنسان، مذكّرا إيانا بقلعة “الموت”، التي أسس فيها الحسن الصباح، قائد فرقة “الحشاشين” الإجرامية، دولته الإرهابية.

تنطوي مسرحية “القلعة” على مجموعة ثنائيات: الحياة/الموت، المقبرة/الجنائن المعلّقة، النور/الظلام، القوة/الضعف، الحب/الكراهية، الواقع/الحلم… إلخ، وهي كلها ثنائيات متعاكسة تشير إلى الصراع بين الخير والشر، وإلى متاهات النفس البشرية.

في المشهد الأول، حسب النص، يبدأ الحدث في جزء من محطة وقود قديمة، صغيرة، شبه مهملة، ويظهر “الأوّل” وهو يتحرك بانفعال، منتظرا بفارغ الصبر انتهاء “الآخر” من تعبئة سيارته بالوقود ليعترض طريقه، لكن المخرج علي الحسيني وضع الشخصيتين في فضاء غير محدد الملامح، فضاء فارغ، حسب تعبير بيتر بروك، كاقتراح جمالي متروك ليتخيّلُه المتلقي.

يلي ذلك المشهد ركوبهما السيارة وبدء الصراع المتوتر بينهما، وخلال سير السيارة أثناء الليل، حيث نكون في مواجهة مصباحيها، تبدأ مقاربة المخرج الذكية في تجسيد الفعل الدرامي من خلال اهتزاز السيارة وتوقفها بين حين وآخر، والمؤثر الصوتي للعاصفة، والموسيقى المصاحبة إلى أن تبلغهما العاصفة فتدفع السيارة إلى منحدر يؤدي إلى الوادي، وتشطرها إلى نصفين، بتقنية بسيطة وناجحة حققت غرضها.

أما المشهد الثاني فهو يجري في مقبرة كانت في ما مضى قلعة، ثم تحولت إلى معسكر للقمع والتعذيب، تحمل آثارا من التاريخ الدموي، وقد تحرر المخرج علي الحسيني في هذا المشهد أكثر من المشهد الأول، موظفا فضاء الخشبة، على نحو أوسع لإدارة الصراع بين الشخصيتين، لذلك جاء أداء الممثلَين فيصل العميري وعبدالله التركماني أكثر حيوية وقدرة على تجسيد نوازع شخصيتيهما.

تمكن البطلان من حبس أنفاس المتلقين بأداء بارع وتنويع إلقائي مبهر، انتظارا لما سيؤول إليه الصراع. كما ابتكر المخرج، في هذا المشهد، علامات بصرية مؤثرة أغنت مقاربته الخلاّقة لنص المؤلف، وأضافت إليه بعدا مسكوتا عنه، أو غير مُفَكّر فيه، في ما يتعلق بشخصية “الآخر”، ذلك البعد الذي يستبطن كراهيته للفنون والكتب أيضا إلى جانب نزعته الإجرامية ضد البشر.

في سياق فضح “الأوّل” لبشاعة الجرائم التي ارتكبها “الآخر”، والمتمثلة بقتل الأبرياء، ومنهم زوجته، أي زوجة “الأوّل”، وتسببه في موت أمّه (أم “الآخر”)، ينبش “الأوّل” بعض القبور ويستخرج منها آلة موسيقية (كمانا) وكتبا وإطارا فارغا للوحة فنية، وغير ذلك، وهي علامات رمزية تشير إلى أن جرائم “الآخر” لم تقتصر على البشر فقط، وإنما طالت حتى تجليات العقل والوجدان.

 

عواد علي

http://www.alarab.co.uk/

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *