مسرحية الطعام لكل فم لتوفيق الحكيم/على خليفة

في التذييل الذي كتبه توفيق الحكيم لهذه المسرحية ذكر مجموعة من الآراء التي رأى أنها تتعلق بمسرحيته هذه ، ومما ذكره فيه حديثه عن مسرح اللا معقول ، على اعتبار أنه يرى في هذه المسرحية ملامح من مسرح اللا معقول في الشكل ،وأختلف معه في هذا وسوف أعلل لرأيي هذا فيما بعد
وأذكر أولا ملخصا لأحداث هذه المسرحية ، ونرى في هذه المسرحية عرض حدث يتم على حائط شقة أسرة حمدي وسميرة إثر نشع حدث في هذا الحائط ، وتطور الأمر فأصبح كلوحة سينما تقدم فيها حكاية عن أسرة مكونة من أم وابنة وابن ، وتتهم الابنة أمها بتورطها مع زوجها الحالي في قتل أبيها ليتم لهما الزواج ، وتخبر أخاها بهذا الأمر ، ويبدو مقتنعا بكلامها ولكنه يكتفي بقراره في أن يترك بيت أمه مع زوجها الجديد في حين الابنة ترى تصرفه فيه تقصير ، أما هو فيرى أن التفكير في المستقبل أهم من كشف غموض جريمة قتل أبيه بيد أمه وحبيبها الذي صار زوجها بعد ذلك ، وأنه مهتم باختراع سيجعل الطعام متوفرا لكل فم
ويحدث أن يتساقط بياض الشقة وتختفي اللوحة التي يتم فيها هذا الحدث الثاني بالمسرحية ، ويحاول حمدي وزوجته إعادة النشع وما حدث بعده من شيء يشبه العرض السينمائي ولكنهما يفشلان في ذلك ، ويتوقفان عن هذا الفعل ، ثم يهتمان بالعمل والتفكير في استكمال اختراع طارق الذي سيقضي على الجوع
ونرى لهذا الحدث الداخلي أثره على الحدث الرئيسي في ترك حمدي للعب الطاولة في القهوة مع رفاقه وانهماكه مع زوجته في القراءة، وشرائه تلسكوب لعله يكتشف به شيئا ما ، وشروعه في تأليف كتاب عن الحلم بتوفير الطعام لكل البشر ، وتنتهي بهذا المسرحية
ونتساءل أولا هل لبناء المسرحية علاقة بمسرح اللا معقول؟ وفِي رأيي أنه لا علاقة بين هذه المسرحيةً، ومسرح اللا معقول وما أبعد الفرق بينها ومسرحية يا طالع الشجرة ، فمسرحية يا طالع الشجرة تنتمي في بنائها ورسم شخصياتها وأسلوب الحوار فيها لمسرح اللامعقول ، أما مسرحية الطعام لكل فم فليس فيها مما يعد خروجا عن الواقعية غير الحدث الذي تم تصويره على حائط بصالة شقة حمدي وسميرة للأسرة السابقة الذكر
وفي ظني أن هذا المشهد لم يكن وجوده مبررا في المسرحية ، لأن المسرحية ليست فانتازيا ، وليست من العبث أو اللا معقول ، ولا يجوز أن نجعل جزءا في المسرحية يسير على طريقة العبثيين في حدوث أشياء لا تخضع في حدوثها للمنطق ثم نجعل باقي المسرحية تخضع للواقع والمنطق في كل شيء ، وكان الأفضل في رأيي أن يشاهد حمدي وزوجته هذا المشهد الذي عرض على الحائط في فيلم في السينما أو في التليفزيون ، فهذا يتناسب مع بناء المسرحية الواقعي
وإذا فالمسرحية لا علاقة لها بمسرح العبث أو اللا معقول، كما حاول الحكيم أن يوهم الجمهور بذلك في تذييله لهذه المسرحية ، وكما رأى بعض النقاد والباحثين ذلك
وأرى أيضا أن هذه المسرحية فيها عيوب أخرى في أسلوب بنائها ، فالفصل الثالث من المسرحية أقرب في معظمه للكوميديا التي تعتمد على الموقف فحمدي وسميرة يرغبان في أن تغسل جارتهما عطيات شقتها وتغرقها بالماء ليعود النشع وما ترتب عليه من شاشة العرض التي يحدث فيها قصة أسرة طارق ، ليعرفا كيف تطورت الأحداث لهم ، ولا تفهم جارتهما سبب إلحاحهما في ذلك ، وتقبل في النهاية مساعدتهما لها في غسل الشقة لعدة أيام ، حتى ييأس حمدي وزوجته من عودة تلك الصورة في الحائط لأسرة طارق
وهي كوميديا طريفة ،ولكن ما علاقة هذا بموضوع المسرحية في تأثر حمدي وزوجته بالأسرة التي شاهدا جوانب من حياتهما في حائطهما فتركا حياة الكسل والخمول واهتما بالمعرفة والعمل ؟، ثم إن الحكاية التي رأيا أحداثها على الحائط المثير فيها لمن يتابعها ليس اختراع حمدي ولا ثقافة أخته وقدرتها على عزف الموسيقى ولكن الذي يثير فيها -في ظني -هو موقف الأخ والأخت من جريمة أمهما في قتلها أباهما بالاتفاق مع عشيقها ، ويتشوق حمدي وزوجته لمعرفة كيف سيكون موقف طارق وأخته من أمهما ولكن الحكيم لا يكمل هذا الحدث على اعتبار أن المهم-في رأيه- ليس هذا الحدث المثير ولكن ما جاء فيه من اهتمام طارق باختراع يوفر الغذاء لكل فم وبراعة نادية في العزف على البيانو وسعة ثقافتها ، وهذا الذي بهر حمدي وزوجته بعد ذلك وغير حياتهما للاهتمام بالعلم والعمل
وأيضا غير مقنع أن ينتقل حمدي من موظف حارس للمحفوظات في إحدى الوزارات لشخص مؤلف
والمسرحية كما نرى فيها خليط من المسرحية الاجتماعية التي تصور أسرة صغيرة في علاقتها مع بعض جيرانها ، وفِي أسلوب حياتها الرتيب ، وتحولها بعد ذلك للاهتمام بالعلم والعمل بعد حادث حدث لها ، وهي بهذا الشكل -كما قلت -تعد مسرحية اجتماعية
ولكننا يمكن أن نراها مسرحية تحمل رؤية فانتازية في استشرافها للمستقبل الذي سيتطور العلم فيه وسيتوفر فيه الغذاء لكل فم ،وبهذا تنتهي الحروب في هذا العالم ويعم فيه السلام ، لأن الحروب تنشأ- في الغالب- بين دول العالم بسبب الصراع على الطعام
وأيضا يمكن النظر لهذه المسرحية خاصة الفصل الثالث منها على أنها مسرحية كوميدية تقوم على كوميديا الموقف من سوء التفاهم الذي يحدث بين حمدي وزوجته من ناحية وجارتهما عطيات من ناحية أخرى -وقد ذكرت أسباب سوء الفهم بينهما وبين جارتهما من قبل-
وأيضا هناك من نظر لهذه المسرحية على أنها من مسرح اللا معقول ، وقد ذكرت أن هذا التصور في النظر لهذه المسرحية خطأ ، ووضحت أسباب ذلك
ولا شك أن هذه المسرحية فيها ملامح من أدب الخيال العلمي، في التصور لما يمكن للعلم أن يكتشفه ويتم اختراعه في المستقبل ، ولكن هذا الخط يأخذ مساحةًصغيرة من هذه المسرحية بخلاف مسرحية رحلة إلى الغد فهي مسرحية تنتمي لأدب الخيال العلمي في كل جزء فيها وفِي أسلوب بنائها -وقد سبق أن حللت هذه المسرحية على صفحتي-
واهتم الحكيم بقضية توفير الغذاء للبشرية من خلال استشرافه للمستقبل والتطور العلمي فيه الذي سيؤدي لذلك في مسرحيتين أخريين غير هذه المسرحية ، وهما مسرحية صلاة الملائكة ومسرحية رحلة إلى الغد
وأختم حديثي في تحليل هذه المسرحية بأن الحكيم فيها نقد مسرحيتين شهيرتين هما مسرحية إلكترا لسوفوكليس ومسرحية هاملت لشكسبير ، وقد رأى الحكيم أن ما قام به أوريستيس أخو إلكترا من قتله لأمه وعشيقها اللذين قتلا والده تصرف يناسب عصرهم القديم ولا يناسب عصرنا ، ولهذا لم يختم طارق كثيرا بمسألة قتل أمه وعشيقها لأبيه ، وترك القضية لضمير أمه أما هو فرأى أن اختراعه أهم من أي شيء آخر يصرف فيه وقته ، وأيضا عاب طارق على هاملت أنه قضى عمره يتقصى في البحث عن قتلة أبيه ليثأر منهم ، ورأى أنه أساء التصرف ، فالعمر يجب أن يستثمر في الأمور النافعة كالاختراع الذي يسعى لتحقيقه
ولا شك أن نقد مسرحيات أخرى داخل مسرحية أسلوب نراه في مسرحيات قديمة كمسرحية الضفادع التي نقد فيها أرسطوفان مسرح أيسخيلوس ومسرح يوربيديس، ومسرحية نقد مدرسة الزوجات ومسرحية مرتجلة فرساي لموليير اللتين دافع فيهما عن مسرحيته مدرسة النساء وهاجم فيها كل من انتقدها
ولكننا مع ذلك لا نوافق الحكيم في أن التقدم العلمي يعني أن مشاعر الإنسان تتبلد ، وألا يعنيه حدوث جرائم خطيرة تحدث من قبل المقربين منه ، فالعلم الذي يوفر للإنسان الرفاهية لن يقضي على عواطفه ونزعاته الإنسانية التي فطره الله عليها ، ولا بد من القصاص بالشرع والقانون لتستقر حياة الإنسان ، ولتستقر أحاسيسه وعواطفه

محمد سامي / مجلة الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *