مسرحية «الصنقرية» لناصر العكرمي: الجسد شيفرة الروح و شيفرة المسرح : مفيدة خليل

 

المصدر : المغرب : نشر محمد سامي موقع الخشبة

الى السواد القاتم الكامن في دواخلنا تحمل مسرحية «الصنقرية» إلى الجمهور، تحليلا ومحاولة لتفكيك شيفرات النفس البشرية المثقلة بادران السواد وقبح الخيانة والظلم والغدر و الزنا وكل المشاعر المنهكة والخانقة، في «الصنقرية» بحث في حيوانية الانسان وإنسانية الحيوان ومحاولة لفهم جزئيات ما يسمى «الانسان» كيف يفكر وكيف يعيش، صراع ينطلق من عائلة

ليشمل المجتمع فالوطن، «الصنقرية» تحليل لمفاهيمة الخيانة ونكران الذات والاستهتار بأخلاق الآخر سواء على مستوى شخصي أو جماعي.
«الصنقرية» مسرحية جديدة عرضت مساء الخميس في قاعة المونديال من اخراج الناصر العكرمي و تمثيل كل من شهاب شبيل ولطفي العكرمي ولطفي الناجح وصبرين السبوعي ويسر عشاوية وشراز العياري وضياء منصوري وعبد العزيز تواتي ومحمد بيج واحمد بيج واشرق الشواشي و بشير زيد وادم السوبسي ونضال الحناشي واضاءة لرياض التوتي و موسيقى ريان البجاوي وتوظيب قيس شعباني .

سواد اللون والروح
«الصنقرية» كلمة من الدارجة التونسية ومعناها البشع او القبيح او الرجل قليل الذوق يقال له «ملا صنقرة» منذ العنوان يفهم المتفرج انه امام عمل يعالج القبح، زينة بسيطة على الركح، ديكور عبارة عن كرسيين و مكتب و مكتبة صغيرة، ديكور يحمل المشاهد الى المنازل.
سيدتان تتحدثان عن «يونس» والمعلمة الجديدة، عن «وحشية الطفل» البالغ من العمر اربعة وعشرين ربيعا ورجل في الركن ينصحهما بعدم المجازفة، منذ البداية كان الغموض، غموض في الكلام والاشارات، غموض في طريقة التعبير، العمل يتمحور حول محاولة جعل «يونس» البالغ من العمر اربعة وعشرين ربيعا مدنيا، لانه عاش منذ ولادته في الجبل بين

الحيوانات، «لطفي الناجح» في دور يونس اقنع الجمهور بحركاته الغريبة وطريقته في تقليد اصوات الحيوانات وفهم حكاياتها، ليونس وقت غير توقيت بني البشر، فالربيع عنده محور الكون لانه موسم تزاوج الحيوانات وموسم يمنع فيه الصيد، طفل لم يعرف معنى اللعب او المدرسة ولم يقابل انسيا منذ الولادة الى ان بلغ من العمر عشرين عاما، بعد وفاة والده ترجعه عمّتاه إلى المنزل وتحاولان جعله انسانا متمدنا وحضاريا، في الحوار بين يوني «لطفي الناجح» وبقية الشخوص يكتشف الحضور الهوة في نفسية ذلك الانسان المتوحش كما ينعتونه، جسم انسان وفكر حيوان ولكن ذكاءه الخارج يضعه امام مأزق صعوبة فهم منطق الكذب والخيانة والغدر.

تتواصل الاحداث في العمل، فيتعلم يونس القراءة والكتابة ويفهم تدريجيا القانون العائلي وبين السطور هناك الكثير من التشتت والضياع والغموض، هناك سر يدور حوله العمل، سر يخفيه الجميع عن يونس فيجد المشاهد نفسه مشتتا كما الأحداث حائرا كما سوداوية الظلم الموجودة في العمل.

في «الصنقرية» صراع انساني بين قيم ومبادئ واختلافات وخلافات بشرية تبرزها العلاقات المتصاعدة بين شخصيات المسرحية، رغم تواجدها في نفس المكان والزمان فيكون الطرح نفسيا بالأساس، في العمل تكون الاحداث كما عدسة الكاميرا او مشرحة الطبيب تقترب من الجزئيات وتقوم بتكبيرها تدريجيا، تفتيت لظواهر ومشاعر نفسية نعيشها ونعايشها، الخوف والحب والضياع والضيق والقلق والسعادة والتغيير جميعها مشاعر نعيشها يوميا ولكن خلفها الكثير من الاسرار التي حاول الناصر العكرمي و الممثلين تفكيكها واعادة تركيب الشخصية.

في الصنقرية يغوص النص والأحداث في اعماق الشخصية فيحدث ارتجاجا وتتصاعد وتيرة السؤال والغموض الذي يلف شخصية صفية «صبرين السبوعي» شخصية مركبة ابدعت الممثلة في تجسيدها شخصية يبدو انها نافرة لجسدها تحاول ضربه ومعاقبته دون معرفة السبب، بين غموض «صفية» و ذكاء «يونس» و محاولة ابن العم «لطفي العكرمي» النبش في الاسرار لافتكاك الارض والمنزل، صراع يصل حد الحيوانية والتخلي عن القيم الانسانية فقط لاجل المصلحة المادية، صراع يكشف الغموض والاسرار ليصدم المشاهد في نهاية العمل بسر معاقبة صفية لجسدها وسر هروب اب يونس بابنه الى الغابة، والسبب ان الطفل نتيجة لزنا المحارم، لتكون العمة هي الام بسبب علاقة جنسية مع شقيقها في ليلة حافلة وظلماء حدثت الخطيئة، قتامة جسدت على الركح في اللون الاسود والموسيقى التي تشبه الانين.

المسرح شيفرة تتطلب البحث لفهمها
«الصنقرية» عمل يفتت المشاعر الانسانية بمختلف تناقضاتها وتشابكاتها، عمل يغوص في الذات الانسانية ليعريها من كل الاقنعة التي تلبسها، عمل سيحلل شخصية الانسان يخرج السواد الذي يسكنه وان لفه ببعض بياض كحب العائلة والتفاني في العمل ومحاولة ارضاء الاخرين ولكن جميعها اقنعة يخفي بها انانية مفرطة واخطاء قد تقترف دون قصد ولكن لها تاثير «العفن».

في الصنقرية الكثير من الالم والقتامة والسؤال عمن نحن؟ وهل نحن اسوياء؟ ام تسكننا عقد نفسية كثيرة؟ وكيف يمكن تجاوز أنانيتنا؟ وما الفرق بين انسانية الحيوان وحيوانية الإنسان اسئلة تطرح بالجسد، اجساد الممثلين وأصواتهم العالية كانت حمّالة رسائل، الاجساد في العمل كانت شيفرات لفهم ماتخفيه الروح، الاجساد المنهكة عنوان للأرواح المتعبة اما الاخرى فدليل على حلم بالأفضل ووحده جسد يونس هو الاشد والأقوى فقط لان روحه خالية من سموم البشر ودسائسهم.

في «الصنقرية» الكثير من الشيفرات أيضا فالعائلة تلك هي انموذج مصغر عن المجتمع، وأفراد العائلة في صراعاتهم هم عينة من تناحر افراد المجتمع الواحد لخدمة المصالح الذاتية، في العمل اشارة الى «العكري» و «البيوعة»، احالة الى من يبيعون الوطن سرا وجهرا خدمة لمصالحهم الذاتية، حديث عمن ورثوا الأراضي من المعمرين فقط لأنهم خانوا أوطانهم الكثير من الشيفرات السياسية وجهها الممثلون على الركح ونقدوا سياسة المماطلة والبيروقراطية بكل تمثلاتها، نقد للسياسة والسياسيين نقد للصراع لأجل المصلحة الخاصة دون مراعاة مصلحة الوطن، جميع الشخصيات مثلت شيفرات ذات رسائل بعضها واضحة المعالم وأخرى غامضة تستحق البحث والتمحيص لفهمها.
«الصنقرية» عمل يغوص في شخصية الانسان يحاول تفكيك جزئياتها لمعالجة ادران الروح ومنها ادران المجتمع فكلما كان الانسان خطاء مع ذاته حتما سيكون كثير الفساد في مجتمعه.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *