مسرحية ( الشقف ) .. هجرة في بحر التيه .. أم تيه الرؤية في بحر الهجرة ؟ بقلم : يوسف الحمدان

 

مسرحية ( الشقف ) ..
هجرة في بحر التيه .. أم تيه الرؤية في بحر الهجرة ؟
بقلم : يوسف الحمدان
 
تعتبر مسرحية ( الشقف ) التي أنتجها مسرح الحمراء والمركز العربي الأفريقي للتكوين والبحوث المسرحية ( تونس ) وفضاء م/ ت بكندا إخراج سيرين قنون ومجدي أبو مطر ، فكرة المخرج التونسي الراحل عز الدين قنون ، تعتبر واحدة من بين أهم المسرحيات المشاركة في مهرجان أوال المسرحي الدولي ( 2018 ) ، حيث سبق وأن عرضت هذه المسرحية في فضاءات مهرجانية دولية عدة ، وحظيت باهتمام كبير من قبل نقاد وصحافيين معروفين في ساحتنا المسرحية العربية على وجه التحديد .
وتأتي أهمية هذا العرض بالدرجة الأساس لطرقه باب قضية تعتبر من أهم قضايا الساعة في وطننا العربي التي نجمت عن الحروب والدمار والفوضى والقتل المجاني وغياب الأمن والسحل اللاإنساني المفاجيء والممنهج ، وهي قضية الهجرة غير الشرعية التي اقتضت فرارا وبحثا عن مكان آمن أو أقل سوءا من الذي فروا بجلدهم منه .
هذه الهجرة التي التهم البحر بسببها آلاف الأبرياء ، ورفضت بعض الدول الأوربية استقبال الآلاف منهم أيضا ، أصبحت اليوم مسرحا ترتكز قضاياه المحورية على الهجرة والمهاجرين ، على ما أباح به البحر من عذابات وما أخفاه من أسرار دامية ، على حكايات ترهق ذاكرة من يحكيها ومن يصغي إليها ، إنها حكايات تراجيديا الموت المغامر في لجج المتوسط الملغومة باللامتوقع من مفاجآت الموت غير الرحيم ومن الأخطار التي تتربص لحظات نجاتك حتى تحرمك من لحظة اللذة الأولى للإنتشاء بهذه النجاة .
ومسرحية ( الشقف ) واحدة من هذه التجارب التي تعالق هم المشتغلين عليها إلى حد كبير بهذا النوع من المسرح ، حيث الهم والمعاناة التي تزدحم بهما قوارب الهجرة إلى حد الفدح ، وحيث لكل شخصية مهاجرة ألف حكاية وحكاية ربما تصل أنفاسها إلى إحدى السواحل وربما بل في الغالب تطوي قيعان البحر وقروشه وحيتانه كل أسرارها وآمالها وتطلعاتها .
وغالبا ما يقتضي هذا النوع من المسرح شخصيات من نوع خاص ، شخصيات متعددة الصراعات في إبحارها نحو مجهول يبدو معلوما ، يقتضي ذاكرة وقدرة على مواجهة أقدار متعددة ، محتمل حدوثها وغير محتمل في الآن نفسه ، وقدرة على تحمل الموت وقبوله بشتى أشكاله وأنواعه ، ومواجهة مغامرة لصراع مادي محتمل حدوثه في أية لحظة مع من يجمعهم به قارب النجاة ، واستعداد لقبول ومواجهة كل المصائر التي ستصادفك في رحلتك الغامضة .
هذا النوع من المسرح ، مسرح الهجرة أو المهاجرين غير الشرعيين ، اختزلته المخرجة سيرين قنون بالتعاون مع مجدي أبومطر في حيز دائري يتوسط خشبة المسرح ويرتكز على الميتروبول ( المطاط الهزاز ) الذي تكتظ فيه كل الشخصيات المهاجرة عنوة والمحاطة من جميع الجهات بعتمة توحي دلالاتها المباشرة الصريحة بعزلة هذه الشخصيات وتيهها في سديم لا حدود ولا ملامح واضحة له .
في هذا الحيز الدائري الصغير والرجراج الذي يسع بقعة ضوئية تتعدد ألوانها وتتقاطع حسب طبيعة ونوعية الحالة التي تعتمل بها دواخل المهاجرين جميعهم أو فرادى ، تجري أحداث المسرحية وتتكشف مغاليق شخصياتها وهواجسها واضطراباتها وحُرَقها ومعاناتها من الوهلة الأولى لافتتاحية العرض حيث يصل بها البوح الضجِر إلى حد الصراخ والفوضى وكما لو أن كل هذه الشخصيات قد اختزلت في شخصية واحدة أو صوت واحد ، أستثني من ذلك الفنانة السورية ندى حمصي التي أسعفتها خبرتها المسرحية الطويلة على منح شخصيتها أبعادا واضحة ومتعددة حتى اللحظة الأخيرة ، دون تورط في ( الإنسياح ) المفرط في جوقة الصراخ المشترك .
كما أستثني من هذا الصراخ أيضا الفنانة اللبنانية الشابة صوفيا موسى التي كانت على قدرة كبيرة من التحكم في أدائها النازف من دواخلها والسيطرة عليه وفق إيقاع جسدي كوريغرافي استثنائي معبر عن الحالة التي تقتضيها مثل هكذا هجرة .
وكما يبدو أن هذا العرض الذي انتظم فيه الإيقاع الحركي للشخصيات وتباين بشكل لا تجد فيه أي تكرار أو تشابه لإيماءة ، وذلك يحسب طبعا لمخرجة العرض ومن تعاون معها ، يبدو أنه خضع لطاقة شبابية مفعمة بالحماس إلى درجة لم تتأمل معها انعكاساتها المشحونة والمتفلتة على فحوى ونوعية هكذا عروض تقتضي خصوصية بحثية مختلفة ودقيقة ركيزتها الأساس قراءة الحالة في قلب التيه المرعب الذي يحبس الأنفاس ويبتر شرايين اللغة والهواجس ولا يولد سوى الهلع والقلق ، إذ حصار الأمواج والمدى المظلم المبهم الذي لا تحتمله قشة النجاة اللامأمونة ، يلفان كل تلافيف هذه الأنفاس التي ربما تختنق بها الحلوق الملحية العطشى أو تزفرها الصدور في لحظة لا أمل فيها لحياة منتظرة أو مرجوة من هذه الرحلة الشائكة والشاقة على الروح والنفس معا .
إنه البحر السديم ، فأين دراسة لحظات الترقب في مده ومداه ؟ لماذا غابت هذه اللحظات عن العرض ؟ هل كان البحر بعيدا عن رؤيتنا أم كان أصعب من أن نستوعبه ؟
لماذا غابت لحظات الصمت الذي يقتضيها مثل هكذا ترقب في مثل هكذا سديم ؟ وفي مثل هذه اللحظات هل تسعفنا اللغة على مواجهتها وتحديها ؟ إذن بأي لغة يمكننا مواجهة ومخاطبة هذا الغول المبهم الجارف ؟
ما هي الحواس والأحداس التي تعج وتضج بها الذات في مثل هكذا حالات ؟ ما الذي يتبقى في هذه الذات غير ذاكرة مثقلة ممزقة وأمل دونه الموت في أي لحظة مغامرة تستشعرها إرادة مهزوزة ؟
في مثل هكذا وضع ، هل يمكن للحكايات أن تتسق في الذاكرة وفي البوح ؟ كيف يمكن لنا قراءة حكاية التيه والمدى السديم المبهم ؟ أي ذاكرة في مثل هكذا وضع ممكن أن تنتظم خلاياها ؟
إلى أين يمكن للمخيلة أن تأخذنا في مثل هكذا حال ؟ هل يمكن أن تكون ذاكرة الواقع أشد فدحا ووقعنة من المخيلة الذاهبة بنا نحو مصير غائمة ملامحه ؟
أعتقد أن هناك فرق بين سرد الحالة وانتظام حكيها وبين ترقبها ومراقبتها من الداخل المضطرب وليس الساكن المستقر فيها .
هي حالة تقتضي قراءة واعية فاحصة ليس للنفس البشرية المتورطة في هذه الهجرة غير الشرعية فحسب ، وإنما للطقس الخارجي أيضا في مثل هكذا سديم ، حيث لا زمن ولا مصير معروف ، ومدى انعكاس هذا الطقس على دواخل المهاجرين بوصفه واقعا متخيلا يصعب تحديد شكله ولحظات حدوثه وإمكانات مفاجآته وتغيراته وتقلباته .
إن المهاجر عنوة في بحر لجي ، هو أشبه بالغريق ، إذ دائما ما يحلم بجناحي نورس ينتشلانه من قشته التائهة في هذا البحر ، وهو أشبه بالمستغيث ، إذ يتخيل في كل لحظة أن صرير الأخشاب الهشة المهشمة الطافحة على سطح البحر ، أصوات إغاثة مقبلة نحوه لتنقذه من محنته ، إن كل شيء في البحر في لحظة اليأس يخاله المهاجر التائه ( غودو ) المخلص من عذابات الجحيم ؟ فمن هو ( غودو ) في هذا العرض ؟ هل هو من نتوسل منه الرحمة في الأعلى أم هو القادم الذي سوف يأتي لإنقاذنا ولو بعد موت ؟ أم هو صوت دواخلنا المفعمة بأمل لا نعرفه ؟ أم هو القبطان الصامت مرشد الموت والحياة في هذه الرحلة ؟
في مثل هكذا حالات ، كيف تواجه قدرك كما واجه موبوديك قدره مع الحوت ؟ وأي قدر من هذه الأقدار كلها قدرك ؟ وأي فنار تتوهم قدومه لإنقاذك مادام فنار ( ج. ل. هلواي ) ضل بوصلته منذ زمن ؟
إنها صراعات صعبة ومركبة لا يُحتمل حصرها في جدلية الحياة والموت ، فهي أكثر شائكية وأشد تعقيدا من ذلك التوصيف ، إنه الداخل المظلم المبهم ، فهل تم الاشتغال عليه كما ينبغي إخراجيا وأدائيا ؟ أم أن سطح الحالة كما يبدو هو الذي تسيد المشهد في هذا العرض ؟
لا شك أننا أمام فريق مسرحي متمكن من أدواته ويتمتع بدربة أدائية احترافية عالية ، وقادر على تشكيل وتحريك جسده المائي الرجراج بمرونة عالية على الترومبول ( المطاط الهزاز ) ، ولكن المسرحية لا تقوم على الأداء الحركي والصوتي فحسب ، إنما على رؤية فلسفية أو فكرية تتكيء عليها الكتابة لهذا العرض وتستمد منها زاد تكوينها وتشكيلها الجمالي والأدائي ومبررات خلقها وتناميها ، وذلك كي تصبح هذه الرؤية متقاطعة في كل تفاصيلها التي تنتسج من خلالها خيوط حرير الرؤية الخلاقة كتابة وإخراجا وأداء وأفقا .
فالمسرحية اكتظت بالثرثرة الصوتية والحركية إلى درجة يصعب معها تحديد ملامح كل شخصية على حدة ، ولاذت في كثير من الأحيان إلى الأداء المونولوجي السردي الشرحي للحالة الموجهة على شكل خطابات متتالية إلى الجمهور ، فباتت حالة منبرية أكثر من كونها حالة استقصاء تصدر من دواخل المؤدين لهذا المنولوج وفق مقتضيات العزلة التي تقترحها مثل حالة الهجرة غير الشرعية التي تورط فيها المهاجرون ، كما أنه ووسط هذا الكم المتشابه في تكوينه الأدائي ، غابت اللحظات التي ينبغي على المتصدي إخراجيا للعرض الالتفات إليها ، وهي العلامة أو الدلالة الاختزالية للغة بشكل عام والحركة بشكل أخص ، باستثناء الأداء المتسق والمتفلت والمشحون والمعبر حركيا وكوريغرافيا للفنانة اللبنانية صوفيا موسى التي كانت تشتغل منذ الوهلة الأولى للعرض على الأداء المتوجس من لحظة الاعتراف والبوح والتعبير ، على عكس أغلب المؤدين الذين ألغوا الزكيبة كلها منذ البوح الأول في العرض .
أعتقد أن المخرجة سيرين قنون ومجدي أبومطر ، خاضا تجربة مسرحية ليست ببسيطة ، ولكنها صعبة بلا شك ، وهي مغامرة لتأسيس مسرح الهجرة غير الشرعية التي أصبحت ظاهرة لها جذورها التاريخية والسياسية المتأصلة والكارثية في عمق هذا الكون وخاصة في بلداننا العربية .
هي مجرد قراءة لتجربة تستحق فعلا أن تُحاور .. وتحية من القلب محبة لكل المشتغلين في هذا العرض ، بدءا من الصديق الأستاذ المخرج المبدع الراحل عز الدين قنون وإلى مخرجة العرض كريمته الفنانة سيرين قنون ومن شاركها الهم والحلم المخرج مجدي أبو مطر وإلى كل المؤدين الرائعين عبدالمنعم شويات والبحري رحالي وندى حمصي سوريا وريم الحمروني وأسامة كوشكار ومريم دارا وقي ايسوتوسي أفريقيا وصوفيا موسى لبنان .
 
 
 
 

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *