مدخل لإتجاه مابعد الحداثة Post Modernism

 

د. راندا طه 
 
طرح الفيلسوف الإيطالي “جيانى فاتيمو Gianni Vattimo ” مصطلح” ما بعد الحداثة Post Modernism” في كتابه “نهاية الحداثة The End of Modernity “عام 1988 مفـسراً” ما بعد “Post ويرى أن الحداثة (Modernity) هي حالة وتوجه فكرى تسيطر عليهما فكرة رئيسية هي أن تاريخ تطور الفكر الإنساني يمثل عملية استنارة مطردة أو متتنامية، والحداثة بهذا المعنى تتميز بخاصية الوعي وبضرورة تجاوز تفاسير الماضي والسعي الدائب نحو التجاوز للمستقبل بتفسير آخر ( ).
 
 و(ما بعد الحداثة) هي المعنى الحرفي لـ”Post  Modernism”، وهو تجارب فكرية قام كرد فعل للحداثة. وتكاد تُجمع المراجع على عدم إعطاء تعريف دقيق لهذا المصطلح، بل بدلاً من ذلك تحاول تعريفه من خلال مقارنته بنقيضه وهو” الحداثة Modernism ” ( ).فمعرفة (الحداثة) أمر مهم في معرفة (مابعد الحداثة)، وكلاً من هذين المفهومين نشأ في ثقافة غربية، ولذلك فالحديث عنهما سيكون ضمن نطاق هذه الثقافة.
 
يوافق أنصار ما بعد الحداثة الحداثيين على أن الإنسان لا يختلف عن بقية أجزاء الطبيعة، بالرغم من أنهم يتصورون الطبيعة بشكل مختلف. والفرق الأساسي بين النظرة ما بعد الحداثية والنظرة الحداثية أن الحداثيين ينظرون إلى الإنسان على أنه “ترس” في آلة طبيعية حية عظيمة، بينما يرى ما بعد الحداثيين الإنسان على أنه “ترس” في آلة إجتماعية. فهم يركزون على الأثر الاجتماعي على الإنسان وخاصة أثر اللغة، وليس على أثر العمليات المادية والبيولوجية الطبيعية كما يفعل الحداثيون.
 
ويرى ما بعد الحداثيين أنه ليس هناك ذات مستقلة عن حقيقتنا الاجتماعية. فالثقافة والمجتمع يصنعان (وبتعبير ما بعد الحداثيين: يخلقان) الأفراد كما يخلقان أفكارهم واتجاهاتهم. وتُعد اللغة من طرق صياغة المجتمع للأفراد. ويشير ما بعد الحداثيين إلى أن الإنسان يتفاعل دائما مع الحقيقة من خلال اللغة. فكل النشاطات العقلية قائمة على اللغة، فنحن نفكر من خلال الكلمات ونتواصل من خلال الكلمات. والناس مرتبطون بالحقيقة من خلال الأسماء التي يعطونها لإدراكاتهم وأفكارهم ، وهذه الأسماء- التي هي عبارة عن كلمات- تُطلق بشكل عشوائي (أو اتفاقي) من المجتمع.
 
 وكلما ازدادت أفكارنا تجريداً كلما ازددنا اعتماداً على الكلمات لإعطاء المعاني. فإذا كانت اللغة هي طريقة الناس للارتباط بالواقع فلابد إذن أن نفهم طبيعة اللغة، وطرق التفكير التى تختلف من لغة إلى أخرى، وتتطرف ما بعد الحداثة في الاستدلال بهذه الحقيقة .( )
 
فليس لدي ثقافة معينة من وجهة نظر ما بعد الحداثيين القدرة على الحكم على أفكار الثقافات الأخرى. فيزعمون أن من يفعل ذلك فإنما يفرض لغته وأنماط تفكيره على الثقافات الأخرى. وحيث أننا لا يمكن أن نقول إن لغةًً ما أفضل من اللغة الأخرى ،فإننا لا نستطيع أن نقيم أو ننقد الأفكار والحقائق التي تؤديها تلك اللغة. 
 
وبالنسبة لما بعد الحداثة فإن المشكلة ليست فقط في الاختلاف بين الثقافات، بل إن المشكلة في داخل الثقافة الواحدة في اللغة نفسها؛ لأننا نفهم الطبيعة أو ما حولنا من خلال إطار اللغة التي نتحدثها. وحيث أن لللغة منطق قائم على أسلوب التركيب فليس لدينا طريقة لمعرفة إلى أي مدى تؤثر لغتنا في إدراكنا. فنحن نسمي أشياءاً نراها في الطبيعة (أسباباً) ونسمي أخرى (نتائج) لكن من أين لنا أن نتحقق من أن تلك الأشياء أسباب أو نتائج، أم أننا فقط أطلقنا تلك الكلمات بطريقة اتفاقية (عشوائية) على أشياء يمكن أن ينظر لها بطريقة مختلفة. فيزعم أنصار ما بعد الحداثة أنه ليس هناك طريقة لمعرفة ما إذا كانت قوانين اللغة هي نفس القوانين التي تحكم الواقع. 
 
فتجارب ما بعد الحداثة تعتمد كثيرا على اللغة في طرحها لأفكارها، ومادامت اللغة غير قادرة على أداء المعنى، وما دام النص يمكن تفسيره بعدة تفسيرات وليس هناك مرجع معتمد لترجيح معنى على آخر، وما دامت الحقيقة هي ما تؤديه هذه اللغة فليس هناك إذن حقيقة مطلقة. فما بعد الحداثة تتركنا غرقى في الشك، محاصرين بما أسموه “سجن اللغة”. فالواقع ـ بالنسبة لهم ـ تبنيه أو تُعرِّفه الثقافة واللغة ولا يُكتشف بالعقل والملاحظة. فالإنسان بالنسبة لهم لا يولد، بل يحدد ويعرّف بواسطة مجتمعه وثقافته. والإجماع الثقافي يحدد ويعرف الواقع ، ويتساءل بعض النقاد عما سيحدث إذا قرر أفراد ثقافة ما واتفقوا على أن جنساً من البشر ليس إنسانياً، وتعرض هذا الجنس للإبادة، كما حصل للسود في أمريكا وكما حصل لغير الألمان في ألمانيا الهتلرية، فعلى هذا يكون تدخل أفراد ثقافة أخرى لمنع الظلم عملاً عدوانياً. 
 
 إذن فتجارب ما بعد الحداثة تقوم في الجملة على فرضية واحدة، وهي أنه ليس هناك حقيقة مطلقة، أي ليس هناك حقيقة واقعية في خارج ذهن الإنسان توجد بذاتها سواء آمنَّا بها أم لم نؤمن ، وإنما كل إنسان تُبني داخله الحقائق بفعل ثقافته ولغته. وبناءاً على هذا فكل الحقائق التي تتكون لدى الناس متساوية، وليس من حق أي إنسان أن ينتقد حقائق ثقافة أخرى، وليس من حقه أن يقول إن ما لديه هو الحق وما سواه باطل.
 
 ولقد شهد تاريخ الفن الحديث تحولات وانقلابات منوعة يمكن قراءتها واعتبارها كفاحاً يسعى عبر تصادم المزاعم والآراء للكشف عن قيم الفن الأساسية، والعمل الحداثي Modernism))- نسبة للحداثيين- هو أي عمل يناهض الإنتاج الفني للماضي القريب ويتجاوزه سعياً إلى تأسيس قواعده الخاصة واكتشاف شروطه الفنية المتفردة التي تؤسس شرعيته.
 
وتتعارض فكرة ما بعد الحداثة مع المسرح والدراما بالمعنى التقليدي المتعارف عليه وأعمالها تتراوح بين محاولات التصنيف والتجريد .فكما أن فكرة العمل الفني “الحداثى “Modernismوفكرة وجود أسلوب ما بعد الحداثة قد ظهرتا لأول مرة في مجال نقد الفن التشكيلي فإن فكرة “العرض المسرحي”Performance الذي يجمع بين الأداء الحي والفن التشكيلي باعتباره فعلاً مناهضاً للتوجه نحو تحقيق عمل فني مستقلٍ بذاته. وهنا يُفترض أن فكرة المسرح في حد ذاتها – كما يقول الناقد الحداثى “مايكل فريد” – تناهض بطبيعتها محاولة اتجاه الحداثة لوضع العمل الفني في خندق الخصوصية والتفرد . كما يُفترض أن الأعمال الفنية التي تشكل تيار “ما بعد الحداثة  Post Modernism” تتحقق في سـلسلة من الـمراوغات القلقة المتقلبة للتعريفات والقواعد ، وهي مراوغات تتسم بطابع” مسرحي Theatrical “كما تميل في بعض جوانبها إلى الجمع بين المعرفة والفنون المختلفه.( )
 
 وبينما تقوم الحداثة على الوحدة والبساطة والوظيفية ففي المقابل يقوم أسلوب ما بعد الحداثة على التشظي والتنافر، ويرى الناقد ( جنكس) أن التعددية تشكل المنظور الرئيسي الذي يبطن أسلوب ما بعد الحداثة ونتوصل من ذلك إلى أن الموقفين (الحداثة و ما بعد الحداثة) لا ينتصر أحدهما على الآخر ، بل يستحيل التوفيق بينهما ، كما يرى جنكس أن أكثر التقنيات تفشياً في فن ما بعد الحداثة هي استخدام “الشفرة المزدوجة “Double-coding و” التورية السـاخـرة “Irony والغموض و” التباس المـعنى “Ambiguity و” الـــتناقض “Contradiction.( )
   تهدف نظرية مابعد الحداثة إلى تقويض الفكر الغربي، وتحطيم أقانيمه المركزية ، وذلك عن طريق التشتيت والتأجيل والتفكيك. بمعنى أن مابعد الحداثة قد تسلحت بمعاول الهدم والتشريح لتعرية الخطابات الرسمية، وفضح الإيديولوجيات السائدة المتآكلة، وذلك باستعمال لغة الاختلاف والتضاد والتناقض كما تتميز مابعد الحداثة بالتشكيك في المعارف اليقينية، وانتقاد المؤسسات الثقافية المالكة للخطاب والقوة والمعرفة والسلطة. ومن ثم، أصبح التشكيك آلية للطعن في الفلسفة الغربية المبنية على العقل والحضور والدال الصوتي. ومن هنا، فتفكيكية جاك ديريدا هي في الحقيقة تشكيك في الميتافيزيقا الغربية من أفلاطون إلى فترة الفلسفة الحديثةو فلسفات ما بعد الحداثة عدمية وفوضوية، تقوم على تغييب المعنى، وتقويض العقل والمنطق والنظام والانسجام. بمعنى أن فلسفات مابعد الحداثة هي فلسفات لا تقدم بدائل عملية واقعية وبراجماتية، بل هي فلسفات عبثية لا معقولة، تنشر اليأس والشكوى والفوضى في المجتمع . ( )
 
 وتعريف ما بعد الحداثة لا يمكن أن يقوم على رصد مجموعة من الصور والأشكال المحددة الخاصة بها؛ وذلك لأن ما بعد الحداثة لا تتواجد إلا كنشاط هدًّام يسعى إلى خلخلة وتقويض نفس الشروط والمبادئ التي نتوهم أنها تنهض عليها. فهو تيار يعلن صراحةَ استحالة تحديد المعنى بصورة نهائية ويحتاج إلى خـــطاب شارح ( Metadiscourse) يمثل إطاره المرجعي.
 
وتمثل ما بعد الحداثة صراعاً بين النظريات والاتجاهات المعرفية المختلفة يتبلور فيها الوعي بالصورة ، إنها اللحـظة التي تتحكم فيـها ” الحكاية الصغيرة  Little narrative” بـ” الحكاية الكبيرة  “Grand narrative بعكس الحداثة التي تحتاج للسرد وتفترض وجود نص شارح ، وكما يرى  ليوتار أن مفهوم ما بعد الحداثة يعنى محاولة تدمير كل التصنيفات والتقسيمات والإفلات منها ، كما أنه عمل في حالة عدم استقرار ( ).
————————————————–
المصدر : مجلة الفنون المسرحية

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *