مدخل حول التأليف المسرحي المعاصر .. بقلم / فرحان بلبل

medium_2016-11-14-4ee662d628-2

من مراجعتنا لتاريخ المسرح في العالم، نجد أن كل مدرسة أدبية جديدة كانت ترث أركانَ وعناصرَ وخصائصَ التأليف المسرحي السابقة عليها، وتُعيد النظر فيها، فتستغني عن بعضها وتضيف إليها عناصر جديدةً ذاتَ خصائص جديدة ليست في محصلة الأمر إلا تطويراً وتعديلاً لما سبقها. فكأن كل مدرسة كانت وليداً جديداً للمدرسة السابقة. وبين السابق واللاحق من الوشائج تشابهٌ واختلافٌ دون أن يخرج ذلك بالمدرسة الجديدة عن الأركان الأساسية للتأليف المسرحي. فمسرح عصر النهضة الأوروبية الذي ولد بعد انقطاع قرونٍ طويلة عاد إلى المسرح اليوناني واستمد منه عناصره الأساسية بعد أن وضعها بشكل يناسب العصر. فوُلِدت الكلاسيكيةُ الجديدة في فرنسا، وولدت المسرحية الشكسبيرية في إنكلترا. أما الأولى فأخذت بمفهوم الوحدات الثلاث استخلاصاً من المسرحية اليونانية. وأما الثانية فأخذت مفهومَ البطل التراجيدي الجليل والصراعَ الضخمَ بين الشخصيات النبيلة من المدرسة اليونانية القديمة أيضاً. وكلا الاتجاهين أخذا الشعر لغةً للمسرح. أي أن ما فعلته المدرستان: الفرنسية والإنكليزية، كان إعادة ترتيبٍ وتنسيقٍ لعناصر التأليف القديمة التي وضعها أرسطو في كتابه (فن الشعر). لكنهما – وهما تأخذان بهذه العناصر – كانتا (تقرضان) حوافَّ وأطرافَ العناصر القديمة بحيث بدت كلُّ واحدة منهما اتجاهاً جديداً سرعان ما استخلص النقادُ منه خصائصه المشروحة المعروفة في كتب النقد المسرحي وتأريخه.

ولم تكن المدرسة الواقعية في القرن التاسع عشر إلا تعديلاً للمدرستين السابقتين، وكان إبسن نموذجَها الأعلى. فقد حافظ الكاتب النرويجي وأقرانُه على العناصر القديمة بعد إحكام بنائها فيما يسمى (الحبكة المتقنة الصنع). وهجرت الواقعيةُ الشعرَ إلى النثر. وكثَّفت الحوارَ وشدَّت مفاصلَ عناصر التأليف بحذف زيادات كثيرة في تفخيم المناظر وفضفضة الشخصيات. وكان ذلك تطويراً لعناصر التأليف المسرحي نحو الصقل والتركيز. ومن المدرسة الواقعية ولد كثير من الاتجاهات في التأليف المسرحي منذ أواخر القرن التاسع عشر وأول القرن العشرين كالطبيعية والسريالية والتعبيرية. ومن هذه المدارس الجديدة ولدت أساليب جديدة في التأليف المسرحي طوال القرن العشرين. وعلى الرغم من أن أكثر هذه المدارس أعلنت ثورتها على الواقعية بما فيها من إتقان للحبكة وتصاعد في الصراع، فإنها لم تكن إلا مستندة إلى الواقعية. فهي (تعدِّل) عناصرَ التأليف المسرحي وأركانه أكثر مما تلغيها.

وفي كل هذا التطوير لعناصر التأليف المسرحي كان الكاتب هو مدار الحركة المسرحية وهو بطلُ التجديد. وهو الذي يحتل مكانَ الصدارة في العرض المسرحي. فكان المخرجَ ومديرَ الفرقة قبل ولادة المخرج في بداية القرن العشرين. وكان نصه المسرحي مدار العرض المسرحي بعد ولادة المخرج. وعلى الرغم من أن المخرجين أخذوا يقاسمون الكاتبَ البطولةَ في الحركة المسرحية، فإن مكانة الكاتب لم تتراجع. وظل رأسَ حركات التجديد. أي أن الحركات المسرحية ظلت تتجدد وتثور ضمن ميدان الأدب المسرحي. وكان النقاد يلاحقون هذا الأدب ويستخلصون – باستمرار – خصائصه المتغيرة المعدَّلة، واضعين النتاج الأدبي المسرحي في مدارس واتجاهات.

ودليل مدار التجديد في الحركات المسرحية حول الكتّاب أن النصوص التي كانت موطن التجديد كانت تهاجر في أنحاء العالم بما يشبه الاجتياح. فنصوص إبسن تلقفها الأمريكيون والإنكليز والروس بما يشبه التقديس. ونصوص تشيخوف جرفت المسرحَ الأمريكي وتركت بصماتها الواضحة – مع تأثيرات إبسن – على آرثر ميللر وتنسى ويليامز وأقرانهما. كما عصف المسرحُ في العالم بنصوص بيرنديللو وبيكيت ويونسكو. وكان تأثير بريخت عاصفاً  في بلدان النظام الرأسمالي العتيدة رغم أن نصوصه موجهة ضدها. وجميع هؤلاء الكتاب لم يقدموا نصوصاً جميلة فحسب، بل قدموا – وهذا هو الأهم – تناولاً جديداً وتركيباً مختلفاً لأركان التأليف المسرحي. وكانوا يقرضون هذه العناصر ويحورونها ويعيدون جوهرَ خصائصها بحيث تبدو وكأنها أركان جديدة قطعت صلتها بالأركان القديمة في حين أنها لم تكن أكثر من تحوير وتعديل لها. ولعل أوضح مثال على ذلك أن بريخت تخلى عن التصاعد الدرامي الحاد الذي هو جوهر البنية التقليدية التي سبقته، وحاول بناء الحكاية عن طريق مَشاهِدَ تتلاحق ومتتابعة متوازية دون أن تكون متراكبة فوق بعضها البعض. لكن التحليل المتعمق لنصوصه يكشف أنه – رغم كل تمرده – لم يخرج عن أركان التأليف المسرحي في خلق الحبكة التي تتالى فيها عناصر التمهيد والعقدة والحل. ولم يكن استيفاؤه لأركان الشخصية خارجاً عن المتعارف عليه في أصول بناء الشخصية. وكل ما فعله أنه أعاد تركيب هذه الأركان حتى بدت صناعته خلقاً جديداً وما هي بجديد إلا بمقدار.

لكن العقدين الأخيرين من القرن العشرين حملا شيئاً جديداً في ميدان التأليف المسرحي. فلأول مرة في تاريخ البشرية يعلن كثير من المخرجين والممثلين أنهم ليسوا بحاجة إلى نصوص مجدِّدة لإقامة العرض المسرحي المجدد، وأن بإمكان أي كلام مهما كان ضعيفاً أن يحقق الإبداع المتفنن والفاتن في العرض المسرحي. وكان لهم من ابتكارات التقنية ما يقدم حدثاً درامياً متصاعداً دون الحاجة إلى نص درامي متصاعد. فالإضاءةُ يمكنها أن تخلق حالاتٍ ومواقفَ تستغني عن الكلام. ويمكن للمثلين أن يعبروا عن أحوال النفس وظواهر الصراع بحركات معينة تعلموها في المعاهد وإن كانوا غير موهوبين. ويمكن للموسيقى أن تخلق التوتر الدرامي الذي قد يفوق قدرة الكلام. ألم تقم كثير من الأعمال المسرحية العظيمة على شيء يشبه السيناريو السينمائي أو التلفزيوني؟

هذا الشيء الجديد الذي حدث في أواخر القرن العشرين قلب موازين المسرح بشكل مثير. وأعلن موتَ الكاتب المسرحي مرتئياً – بكثير من الثقة والجدارة –  أنه يمكن من غير هذا الكاتب أن يقوم المسرح وأن يتطور وأن يعبر وأن يُمتِع وأن يحرض. أي أن يقوم بجميع المهام التي احتكرها النص المسرحي طوال قرون. فهل يمكن أن ينتهي أمر النص المسرحي فلا يعود ركناً خطيراً في بنيان العرض  المسرحي، وأن تخسر البشرية هذا الفن الأدبي بعد أن تعهدته بالتطوير والتحسين طوال قرون؟

ولم يكن شأن المسرح العربي في عمره القصير بعيداً عن شأن المسرح في العالم. فقد ظل النص المسرحي عماد نشاطه وقوام عروضه. وكان كتّابه مدارَه خلال قرن ونصف قرن من بداية نشأته. فهم الخالقون لـه، وهم المطورون لبناء الدراما في النص والعرض، وهم الذين أنشؤوا لـه تراثاً أدبياً مازال يستكمل أدواته حتى استوفى أكثرها مع بداية عقد ستينات القرن العشرين، وهم الذي دفعوا المخرجين والممثلين إلى تأكيد هذا الفن وترسيخه بين الناس، وكانت نصوصهم تهاجر من بلد عربي إلى آخر في احتفالية مهيبة.

ولكن العقد الأخير من القرن العشرين رماهم خارج دائرة الاهتمام. وصار العاملون في المسرح يستغنون عن النصوص المسرحية ذات البناء القوي التي تدخل ضمن الأدب المسرحي. وصارت العروض المسرحية تقوم على نصوص يكتبها المخرجون بطريقة السيناريو، أو يأخذون نصوصاً معروفة ويُعمِلون فيها إعدادَهم حتى لا يبقى منها إلا هيكلُها ليقوم الفعلُ والإضاءةُ وحركاتُ الممثل مقامَ البناء الدرامي في تكوين الصراع وبناء الحبكة وتقديم الشخصيات. وصار بالإمكان الاستغناءُ عن قدر كبير من الكلام. فهل مات الكاتب المسرحي العربي؟ وهل يمكن أن يخسر العرب هذا الفن الأدبي الذي ما عرفوه إلا متأخرين وفرحوا به وتعهدوه بالرعاية والتطوير حتى يصبح من تراثهم الأدبي والحضاري؟ وهل يمكن أن يخرجوا من ميدانه ولما يستكملوا العدة في إتقانه؟

العربى عبدالوهاب

http://asrar7days.com/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *