“متلازمة بنك الاحتياط” مسرحية هزلية لا تخلو من جد : أبو بكر العيادي

مسرحية تعالج بطريقة فكاهية مغالبة المرء للصعوبات، وثباته في مقاومتها، وإصراره على قهرها حتى ينال مبتغاه.

ماذا يفعل المرء حينما يهم بدخول معترك الحياة ويجد الأبواب مغلقة أو تكاد، لا يعمل إلاّ بضعة أشهر أو أسابيع أو أيام، يركن إثرها على الهامش، كحال لاعبي الكرة الاحتياطيين، الذين يلزمون بنك الاحتياط؟ تلك هي ثيمة “متلازمة بنك الاحتياط” التي تعرض حاليا في مسرح “بلفيل” بباريس.

” متلازمة بنك الاحتياط” مسرحية هزلية لا تخلو من جدّ، تعالج بطريقة فكاهية -تربط الخيال بالواقع- مغالبة المرء للصعوبات، وثباته في مقاومتها، وإصراره على قهرها حتى ينال مبتغاه.

وقد استقتها الفرنسية ليا جيراردي، مؤلفة النص ومؤديته، من تجربتها الخاصة، ومن تجربة إيمي جاكي، مدرب المنتخب الفرنسي لكرة القدم، الذي قاد فريقه إلى الفوز بكأس العالم عام 1998، رغم كل العقبات التي وضعت في طريقه، وكل الانتقادات التي رافقت إشرافه على المنتخب، وكل الإخفاقات السابقة في مسيرته الرياضية، حتى لكأن الفشل قدره، قبل أن يسطع نجمه بفضل لاعبين ماهرين مثل زين الدين زيدان لا محالة، ولكن أيضا بفضل مثابرته وإيمانه بأن الثبات كفيل بتحقيق المرام، فمن سار على الدرب وصل، ولو بعد مشقة.

وقبل عشرين عاما، كان المدرب إيمي جاكي يحلم بالفوز بكأس العالم، وكانت الفتاة ليا جيراردي تحلم بأن تصبح ممثلة، واليوم كتب إيمي جاكي اسمه في سجل التاريخ الكروي بأحرف من ذهب، وبقيت ليا على بنك الاحتياط، أو دكة البدلاء، (والمقصود بالبنك هنا هو مقعد عريض يتسع لأكثر من شخص)، شأنها في ذلك، شأن اللاعبين الستة، الذين استدعاهم إيمي جاكي ضمن مجموعة تضم ثمانية وعشرين لاعبا.

 ثم استغنى عنهم قبيل انطلاق بطولة كأس العالم، لأن قوانين الفيفا في ذلك الوقت كانت تشترط ألاّ يتجاوز كل فريق اثنين وعشرين لاعبا؛ منهم من سيكون أساسيا في المنتخب، ومنهم من سيعوّض أحد زملائه، ومنهم من يبقى طيلة الدورة على بنك الاحتياط، ما يولد لديه متلازمة، وتعني طبيّا مجمل الأعراض التي تشكل كيانا وتتسم بحالة مرضية، وتعني مجازيا مجمل العلامات والسلوكيات التي تكشف عن وضع سيء.

وأولئك الاحتياطيون هم أفضل حالا ممنّ وقع الاستغناء عنهم، فقد تلقوا الخبر ليلة 22 مايو 1998 كما يتلقى المرء نعيا أو فاجعة، ولا تزال “ليلة الملاعين” (وهو عنوان كتاب لكريم نجاري الصحافي بجريدة لوباريزيان) حاضرة في أذهان المبعَدين (ليونيل ليتيزي، إبراهيم با، بيير ليغل، نيكولا أنيلكا، مارتن جيتو وصبري لموشي).

بطلة المسرحية تسأل “بنك الاحتياط”: أي إحساس ينتاب المرء حين يشعر بأنه خارج المجتمع، ولا فائدة ترجى منه؟

ومنهم من عانى طيلة ثلاث سنوات ونصف، ثم استعاد توازنه ورضي بما ناله معتبرا أن ذلك “مكتوب” كما قال صبري لموشي؛ ومنهم من عاد إلى المنتخب بعد سنوات مثل أنيلكا وليتيزي بنجاحات متفاوتة؛ ومنهم من رأى فيها مؤامرة حاكها ديديي ديشان قائد الفريق في ذلك الوقت مثل إبراهيم با؛ ومنهم من عدّها ضربة قصمت ظهره ولم يشف منها حتى الآن مثل جيتو.

ولم تتوقّف ليا جيراردي عند معاناة هؤلاء لتشبّه حالها بحالهم، بل اختارت ألاّ تبقى على دكة البدلاء، وتسعى جهدها كي تصبح لاعبة أساسية، ومن هنا كان سردها عن الإخفاق الذي رافقها في البداية، قبل أن تفرض نفسها في الساحة الفنية، وتساهم في عدة أفلام قصيرة أمثال “الليالي الباريسية”، و”التكرار”، و”الحشومة”، وكذلك في أعمال مسرحية كـ”الحجر”، و”استماع! مناظرة!”، و”مونتيديو” عن نص للكاتب الإيطالي إرّي دا لوكا، وحتى في بعض البرامج والتمثيليات الإذاعية على موجات “فرنسا الثقافية”.

وتعزو اتخاذها إيمي جاكي (جيميني كريكت في المسرحية) مثالا وقدوة، لأنه في نظرها نموذج الإنسان المثابر الذي لا توقفه العثرات ولا يصده الفشل، فهو مثل طائر الفينيق ينهض دائما من رماده، عرف الإخفاق مع أغلب الفرق التي دربها (ليون، بوردو، مونبيليي، نانسي)، وواجه النقد اللاذع من المحللين الرياضيين واللاعبين القدامى، عن اختياراته واستراتيجياته الدفاعية أساسا، وغياب قلب هجوم قادر على هز شباك الخصوم.. دون أن يثنيه ذلك عن الحلم بتحقيق نصر باهر، وهو ما حقّقه يوم 12 يوليو 1998.

ينطلق المشروع إذن من تجربة شخصية، عن البطالة التي عاشتها ليا جيراردي بعد التخرج، وأحست خلالها أنها تدور في حلقة مفرغة، فما لبثت أن قارنت وضعها بوضع لاعبي الاحتياط الذين يقضون وقتهم في تشجيع زملائهم أكثر ممّا يقضونه على الميدان.

وجعلت منه مدخلا لمساءلة “بنك الاحتياط” بمفهومه العام: أي إحساس المرء بأنه خارج المجتمع، لا فائدة ترجى منه، واكتشفت أن بعض اللاعبين يعيشون ما تعيش، فصارت ثيمة عملها الثبات أمام الإخفاق.

تواجه البطلة (التي ترتدي زي الفريق الفرنسي) هنا شخصيات مهيمنة، كالوسيط، والمستشار، وطبيب التحليل النفسي.. فيتحوّل الخطاب بينها وبينهم إلى صراع موازين قوى، ينتابها خلاله إحساس بأن مصيرها مرتهن بالضرورة إلى رغبات الآخرين، تماما كوضع اللاعبين الذين يرتهنون إلى المدربين والماركات العالمية ووسائل الإعلام، وحتى الأنصار والمشجعين، ما يجعل الاستقلالية والموقف الذاتي معقدين، بل إن الممثل، وكذلك اللاعب، يفقد حقه في التعبير عن رأيه بصراحة، مخافة غضب هذا الطرف المؤثر أو ذاك، ورغم ذلك تدعو إلى الثبات والمثابرة لبلوغ الغاية المرسومة.

______________

المصدر : العرب

موقع الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *