متغيرات البنية الدرامية فى المسرح

أ. أحمد هاشم (مصر): متغيرات البنية الدرامية فى المسرح

تأسست البنية الدرامية فى المسرح وفقا لما ارتآه الأغارقة المسرحيون وحددها “أرسطو” مرتئيا نموذجها فى
“(أوديب ملكا) لسوفوكليس، وتتمحور فى فعل يقوم به شخص عظيم، فيتغير مصيره لحماقة يرتكبها،
فيستوجب عقابه وفقا للنظام السياسي الديمقراطى السائد زمنذاك، وتتناول فعلا واحدا تاما فى كليته، ومما
يؤخذ عليها تسخيره التلك المنظومة، ومن وجهة النظر السوسيولوجية لم يكن ذلك المجتمع مثاليا يقوم على
العدل والمساواة بين البشر، وتعمل تلك البنية فى أعلى تجلياتها بالتطهير على ترسيخ ذلك النظام، الذي كان
من السهل العصف به من داخله على يد “بريخت” فى القرن العشرين.
وقد حدثت حلحلة لتلك البنية، مع توهجات عصر النهضة فى انجلترا
(شكسبير وكريستوفر مارلو وفطناء الجامعة)، وفرنسا (راسين وكورنى وبومارشيه بصورة أساسية “، وأسبانيا (ثيربانتس وكالدرون دى لا باركا)، وتخلت عن صراع إرادة الآلهة مع إرادة البطل ليحل محلها التنازع بين قيم بعضها إنسانى، وبعضها تفرضه التقاليد الإجتماعية، ليصبح البطل حر فى تحديد مصيره، إنها حرية الاختيار ليصبح “هاملت” حرا فى الثأر لأبيه، ويصبح “عطيل” حرا فى قتله ل “ديدمونة”، و “دون رودريج” فى “السيد” ل “كورنى” حرا فى الثأر لشرف أبيه، أو التهاون من أجل محبوته، وأصبحت أيلولة المصير رهنا بخيارات البطل، أصبح التشكيل البصرى يلعب دورا جعل مخرجى الواقعية والطبيعية يغالون فى المشابهة بين مناظرهم المسرحية والواقع، وأصبح المؤلف يسهب فى وصف المنظر المسرحى، ووصف أبعاد الشخصيات، وقصرت والتراجيديا مداها “على زمن مقداره دورة شمسية واحدة، أو تجاوز ذلك بقليل “وهى جملة غامضة، ويعود أمر صياغتها كقانون درامى الى” جيرالدى سنشيو “حين يقول” التراجيديا والكوميديا تتفقان ضمن ما تتفقان فيه من عناصر أخرى هو قصر الفعل على يوم واحد، أو أطول من ذلك بقليل “، فحول عبارة أرسطو الى قانون درامى لا ينتهك، ولم يشر أرسطوأيضا الى وحدة المكان، وإنما أخذ بها تساوقا مع وحدة الزمن، وتعتبران آخر ما أسهمت به إيطاليا فى النقد، وعرفتهما فرنسا وإنجلترا بعد ذلك، وظلتا كقانونين دراميين طوال سيادة الكلاسيكية الحديثة والرومانسية، حتى جاءت طبيعية ابسن وسترندبرج متخلية عن بعض ملامح تلك البنية، إذ لم يعد الفعل بالضرورة عظيما، ولم تعد الأفعال حكرا على العظماء، وانصرف الاهتمام إلى الموضوعات الإجتماعية، وأصبحت النفس البشرية مجالا للاهتمام والتحليل، حتى أحدث “برنارد شو” نتوءا فى التحول بمسرحياته المهاجمة للقوانين الإجتماعية المعرقلة لرغبات البشر، فناقش فى مسرحية “الزواج” حق المرأة فى ممارسة أمومتها دون زواجها حيث كانت تمنع القوانين ذلك، كما أولتا اهتماما بالمؤثر الصوتى، إذ جعل “ابسن” صوت صفق “نورا” للباب فى “بيت الدمية” يحتل مكانا كبيرا على مستوى الفعل والرمز، كما يجعل “برنارد شو” المؤثر الصوتى يضفى مدلولا بمسرحيته “الزواج” إذ يشير الى صوت عصفور يغنى فى الحديقة “من خارج المنظر المرئى”، كما يولى اهتماما بالمساقط الضوئية للشمس. والقفزة الحقيقية فى البنية الدرامية هى ما حدث فى مسرح “بريخت” استنادا الى رؤيته لدور المسرح فى المجتمع، مستخدما العناصر الملحمية للإنفلات من الإيهام، لاستبقاء وعى المتفرج يقظا، ليصبح قادرا على المباعدة بين شخصه، وبين ما يشاهده، ليكون قادرا على اتخاذ موقف تغييرى .
وإذا كان العرب قد عرفوا المسرح فى كلاسيكيته الحديثة ثم الواقعية، فى تبنيه لهموم المجتمع المصرى، بعد ثورة يوليو 1952، منعكسا فى أعمال “نعمان عاشور” و “سعد وهبة”، واحتل المجتمع بهمومه محل الفرد، حتى اتخذ منحنى آخر مع هزيمة يونيو 1967 وما أحدثته من شرخ لدى الكافة فسعى بعض من المسرحيين للبحث فى التراث العربى، طارحين عبره هموم الوطن وقضاياه، دون الوقوع تحت الطائلة الرقابية، فعرفت الرمزية طريقها إلى البنية الدرامية عبر الكلمة والصورة والأداءات، ولا مقارنة بين رمزية “ميترلنك”، الذى تخلى عنده الواقع الخارجى فى البنية للواقع الداخلى فى النفس البشرية، أما مسرحنا العربى إلتجأ للرمز للإنفكاك من رقابة السلطة، وتلك كانت البذور لمسرح الكباريه السياسى الذى انتشر طوال الفترة الساداتية، وجزء من فترة “مبارك”، وبدايته الحقيقية واكبت الحقبة الناصرية، مع عروض مهرجان القاهرة للمسرح التجريبى تركت أثرا بالغا على بنية عروضنا بحيث أصبح الآداء الحركى يشكل جزءا من بنية الكثير من العروض والصورة تختزل الكلمة، واستطاعت تلك البنية أن تغزو عروضنا المسرحية فى الأقاليم، مما أحدث حالة إغترابية، ونوعا من التعالى الزائف بين لتلك العروض وصناعها، ومشاهديها، وهو ما يثير قضية ملحة حول الصياغات الشكلية المبتدعة لذاتها، والهموم الاجتماعية التى تمس العصب العارى للجمهور.

—————————————————————————————————————-
المصدر :مجلة الفنون المسرحية – مهرجان القاهرة للمسرح المعاصر والتجريبي – المحور الفكري – المحور الثاني: كيف قال؟ التجريب وتثوير الأبنية الجمالية

شاهد أيضاً

الكتاب المسرحي العربي للمرة الأولى في جيبوتي. اسماعيل عبد الله: حضور منشورات الهيئة العربية للمسرح في معرض كتب جيبوتي حدث مفصلي في توطيد الثقافة العربية.

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *