ماضٍ عراقي اسمه يوسف العَاني

43e49c26-f6ff-4524-bc8b-043c9d4e83d5_3x4_142x185

 

مهما كان الحاضر متقدماً، يبقى الماضي أكثر تقدماً في أذهاننا، نتفاعل مع الماضي لقلة حيلة الحاضر ولرداءته، فتشربت عقولنا بمُثله وأخبار نجومه، نستعين بها على ما نحن فيه. فكيف إذا كان الحاضر مثلما نرى ونسمع، وحال الثقافة العراقية الأكثر بؤساً، وفي مقدمتها الفن؟ يُنقل عن يونس بن مسيرة الزَّاهد (ت 132ه)، على أنه مِن الأقدمين الذين تنبهوا إلى تلك المفارقة، عندما قال: «ما لنا لا يأتي علينا زمانٌ إلا بكينا منه، ولا ولَّى زمانٌ إلا بكينا عليه» (الزمخشري، ربيع الأبرار).

هذا ما فكرتُ به عند إذاعة نبأ وفاة الفنان القدير أحد أبرز آباء المسرح العراقي، يوسف العاني (1927-2016)، بل وسماع نبأ رحيل كل فاعل في الحضارة والثقافة العراقيتين، ظناً أن تعويض المفقودين بات عسيراً، فالكلمة مهما كانت قوية لا تجد لها طريقاً إلى العقول، وهي مفردة أمام حشود المُجهَلين.

كان دأب أعلام الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، التأسيس وإعادة البناء، يوم كان الفيلم والمسرحية لهما وقعهما في النفوس، ويتفاخر الشباب بارتياد المسارح ودور السينما، وفي الغداة تُحبر أقلام النقد فيها، حتى تجد الفيلم أو المسرحية يصبحان حكاية المقاهي والنَّوادي، يتفنن المحترفون والهواة في سكبها في أذهان الناس، بل يُسافر المغرمون بهذه الفنون من مدنهم إلى بغداد، كي يحضروا مسرحية «النخلة والجيران» مثلاً.

نعم، كان يوسف العاني كبيراً في إخلاصه لفنه وصونه من التبدد، لكني وجدت من لا يُقدر علاقة العاني بالوطن، فلما تأخر عمن هجره من الفنانيين لأسباب سياسية (1979) تحديداً، فسمعتُ أحدهم يستجدي كلمة من الفنانة فخرية عبدالكريم المعروفة بزينب (ت 1998) لتحط بها مِن قَدر العاني، لأنه تأخر عن ركب المغادرين تحت جنح الليل، وأتذكر جوابها: إنه أستاذي وكفى! فقد أُشيعت حكايات عديدة عن الفنانين الكبار الذين تأخروا داخل العراق، واستمروا في المسرح. يقول العاني: «أجد سعادتي في وطني، وفي الناس، وأحلم برد جميل الذين شاركوني في الرحلة وما زلتُ أحلم» (المطبعي، موسوعة أعلام العراق في القرن العشرين).

كانت ممارساتنا مع من لم يوافقنا الرأي والسلوك، الشطب على تاريخه كافة. أقول: كيف جاز للبعض، ممَن تاهوا في الاغتراب وظلوا يتغذون على الذكريات، الشطب على تاريخ مثل يوسف العاني، وهو التاريخ نفسه؟ فهل يجري الحديث عن المسرح والفن العِراقي بل والمواقف الوطنية والإنسانية دون أن يكون العاني في المقدمة؟

كنتُ مِن الحالمين برؤية أمثال العاني الكبار، هذا ما شعرت به في عقد السبعينيات، وإذا بي بعد حين أجده أمامي فاتحاً ذراعيه، بعد الانتهاء من ندوة عُقدت في أربيل (2007)، خجلتُ من تواضعه، وأكبرتُ من حلمي في لقائه الذي تحقق، وبحتُ له بما كان يجول في خاطري آنذاك. كذلك تكرر الموقف في ندوة أخرى عُقدت بعد عام من ذلك التاريخ في عَمان. كان الشعور نفسه عندما حضرتُ أمسيةً لمحمد مهدي الجواهري (ت 1997)، ولما ترجل إلى خارج القاعة تبعته وألتفتُّ نحوي مستغرباً من لحاقي به، فتحدثتُ معه بما سمعته عنه. حينها قال لي أحد الأصدقاء: ماذا أردت من الجواهري، أراك لم تقل شيئاً؟ قلتُ له: أريد أن أقول: تحدثتُ مع الجواهري. ألم يجرِ الشباب والشابات الأميركيون والأوروبيون وراء ألفيس برسلي مثلاً، كي ينالوا إمضاءه؟! حديثي مع الجواهري هو الإمضاء ذاته. هكذا كان ذلك مع يوسف العاني، أخذ إمضاء.

دعوني أذكر لكم ما قصه بعض البرامكة وإلحاحه لرؤية الجاحظ (ت 255ه)، قال: «ركبت البحر وانحدرت إلى البصرة، فخَبَرتُ أن الجاحظ بها، وأنه عليلٌ بالفالج، فأحببت أن أراه قبل وفاته، فسرتُ إليه، فأفضيتُ إلى باب دار لطيف، فقرعته، فخرجت إليَّ جارية صفراء، فقالت: مَن أنت؟ قلت: رجلٌ غريب، وأُحبُّ أن أُسر بالنَّظر إلى الشيخ، فبلغته الخادمة ما قلته، فسمعتُه يقول: قولي له ما يصنع بشقٍ مائل ولعابٍ سائل ولونٍ حائل؟ فقلتُ للجارية: لا بد مِن الوصول إليه. فلما بلغته قال: هذا رجل قد اجتاز بالبصرة، وسمع بعلّتي، فقال: أراه قبل موته لأقول قد رأيت الجاحظ» (ابن خِلِّكان، وفيات الأعيان). هكذا كان الناس مع الكبار، والعاني مِنهم.

وُلد العاني في مدينة عانة، على الفرات، وعاش في محلة شعبية في بغداد، قيل إنه تأثر بأجوائها الاجتماعية، ومنها ثبت لديه حب الناس، فسخّر مواهبه لإبراز معاناتهم. درس الحقوق والفنون، فعكس الأول في الآخر بحبِّ العدل، حتى نزل السجون بهذه العاطفة. تولى أرفع المناصب في مجاله، وأتقن أداء مختلف الأدوار. لذا يمكن القول: ماضٍ فني اسمه: يوسف العاني.

نقلاً عن “الاتحاد”

http://www.alarabiya.net/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *