مارك ميتشيل: انتظار الموت كعمل فني

بعد انتهاء المقابلة التي كانت في أحد مقاهي الجانب الشرقي من بيروت، مشيت مع الفنان مارك ميتشيل، حائك ثياب الأبدية، وفي الطريق اجتزنا “المتحف الوطني”، بدا لي ضرورياً، في تلك اللحظة، أن أخبره أن المتحف افتتح، مؤخراً، قبواً يعرض فيه قطعاً أثرية تتصل بالجنائز ودفن الموتى، وتمتد من العصر الحجري وحتى عهد السلطنة العثمانية، تأثّر ميتشيل كثيراً وكأنه عثر على شيء ينتمي إليه في هذه المدينة، حيث يحضر هذه الأيام للمشاركة في مهرجان “أرصفة زقاق” المتواصل حتى الثلاثاء.

في اليوم التالي للقائنا، ولدى عرض خمسة من أثوابه في فضاء “دواوين”، تناهت إليّ تعليقات الحاضرين؛ “إنها ثياب! أين هو العرض إذن؟”، المسألة أن ما يقدّمه ميتشيل ليس مفصولاً عن حكايته، فإذا فككت قصته الشخصية عن أثوابه الحريرية ذات الجمال المرعب، سيخسر العمل الكثير من معناه وقد يبدو غير مفهوم أصلاً.

حاك ميتشيل، يدوياً، تسعة أثواب بتدرجات مختلفة من اللون العاجي من الحرير وبقايا أقمشة كتانية وقطنية، استغرق العمل عليها 14 شهراً، وقدّمها في عرض أدائي بعنوان “دفن” في متحف “فراي آرت” في سياتل في 2013. ارتدى الثياب التي فصّلت بعناية شديدة، طفلة وامرأة ورجل وترانسجندر، وكان هناك كل الأعراق الأفريقي والأوروبي والأميركي والآسيوي، وكان المشترك الفعلي بينهم هو المصير الحتمي، كأنما ميتشيل يستعيد مقولة موريس بلانشو “كلنا صغار على الموت، إننا لا ننضج للموت أبداً”.مارك ميتشيل في “دواوين” بيروت

 

يتناول في عمله الجديد “دفن 2” العنصرية في أميركا

الموت هنا أيضاً يأخذ معنى أوسع، إنه موت الجندر، وموت العرق وموت العمر، إعلان عميق وجنائزي للمساواة الحقيقية بين البشر. استلقى المشاركون التسعة على ألواح/مرايا في قلب المتحف مغمضي الأعين، إنه عرض/قدّاس لراحة الأحياء/الموتى. عن العرض يقول ميتشيل “حضر ألف شخص، كانوا ينتظرون خارج المتحف تحت المطر حتى يدخلوا، كثيرون منهم تواصلوا معي بعد العرض وأخبروني كيف غير ما شاهدوه فيه حياتهم، بما فيهم العارضين الذين ظلواً مستلقين، متظاهرين بالموت، خلال العرض لساعتين ونصف”.

أصيب ميتشيل (54 عاماً) بالإيدز في عمر ثلاثين عاماً، ومنذ ذلك الوقت عاش في انتظار الموت، يقول “بدا الأمر كما لو أنني خرجت من العالم الجدير بالاحترام إلى عالم مشين، كان ذلك طريفاً لبعض الوقت، لم يكن الأمر مجرد مرض بالنسبة للمجتمع، بل إنه مرض تستحقه وكما لو أنك كنت تطلبه”.

قبل ذلك بكثير، عوقب ميتشيل من قبل عائلته ونبذ، يروي في حديثه إلى “العربي الجديد”: “عانيت كثيراً مع عائلتي، كادوا أن يقتلوني تقريباً، وحاولت الانتحار مرتين وأنا في السابعة عشرة ثم في الثامنة عشرة”، بدا ميتشيل كما لو أنه يلتفت إلى نفسه وهو في ذلك العمر، يسكت قليلاً ثم يكمل “هناك حاولت الانتحار مرتين، كم يوجعني قلبي على ذاك الولد”، منذ ذلك الوقت بدأت علاقة ميتشيل مع الموت تحفر قناة عميقة تجري فيها مياه حياته، مرت السنوات والشاب العليل يمارس الحياكة ويمتهن انتظار الموت، كل مرضى الإيدز يموتون، وهو في عين نفسه ليس إلا رقماً سيضاف إلى الإحصائيات. مرت سنة بعد أخرى، وبدا كما لو أن الموت ابتعد، لكنه أيضاً يتنفس بصوت عالٍ بالقرب من المصابين بالمرض، خصوصاً في عقدي الثمانينات والتسعينيات.

كان ميتشيل يعيش حداداً على ميتشيل دام ربع قرن، يقول: “بعد أن قدّمت عرض “مدفن” وجدت نفسي أتعافى من 25 عاماً من الحداد على نفسي، عوفيت من انتظار موتي الذي حملته على كتفي طيلة شبابي، والذي كان يعتقد الناس أنني بحالتي هذه ألاقي ما أستحقه”.

وخلال 14 شهراً من العمل، وعبر عملية الخياطة والتطريز بشكل خاص، منحه البطء فرصة للتفكير وهو يصنع ثياباً للموتى، ومنها ثوب لنفسه، حياكة رداء للأبدية من الحرير الثمين والكتان (تقدر قيمة الثوب بـ 25 ألف دولار)، ثم ابتكار أشكال التطريز الخاصة بهذه المناسبة الغريبة. يبتكر الفنان شعيرة للرحيل الأكبر، وفناً للاحتضار، لكنه يوضح “أنا لست متشائماً، ولا أقدس الموت أو أبهرجه أو أجده ساحراً، أعرف أنه غيابنا عن وعينا بشكله الراهن”.

تعلّق ميتشيل بالحياكة والتطريز وهو طفل، كانت العائلة تمنعه من ممارسة هذه الهواية النسائية كنوع من الفصل الجنسي، لكنه ظل متمسكاً بها حتى أصبح بارعاً فيها، “لا يوجد شيء لا أستطيع حياكته، كل أنواع الثياب وكافة الأقمشة، وكلما وجدت نفسي أتقن كل شيء فرضت على نفسي تحدياً جديداً”. من هنا، يعمل ميتشيل حالياً على عرض آخر بعنوان “مدفن2” والذي يتناول العنصرية كثيمة؛ “ما يحدث في أميركا اليوم مروّع، العنصرية المطردة جعلتني أفكر في أخذ مشروع ثياب الأبدية إلى منحى جديد”.

وقد اختار قماشاً من الصعب التحكم به، الشيفون، ويعمل يومياً على ترصيعه بالنجوم التي لا يستطيع أن ينجز منها أكثر من خمس يومياً لصعوبة القُطَب وشكل الحياكة الذي اختاره لنفسه.

هل يكون الموت عوليس مارك ميتشيل، هل يكون هو بينلوب الموت، إنها شكل من أوديسة الفرد المعاصرة الذي يقطع حواجز الجندر والمرض المحرم والحب والنبذ والعنف، بينما هو يحيك الثياب التي لربما يعتقد أنها تجعل من النهاية أقل قبحاً إن لم نقل أكثر جمالاً.

————————————————————————–
المصدر : مجلة الفنون المسرحية  – نوال العلي – العربي الجديد

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *