مأساة منسية من تاريخ اليابان الحديث تعرض على الخشبة / أبو بكر العيادي

“بعضهن لم ير البحر قطّ” للكاتبة جولي أوتساكا تشد اهتمام المتابعين لمأساة منسية عاشتها مجموعة من الفتيات اليابانيات في مطلع القرن الماضي.

بعد مهرجان أفينيون، احتضن مسرح “مصنع القرنقل” في الضاحية الباريسية “إيفري سور سين” مسرحية “بعضهن لم ير البحر قطّ” عن رواية الكاتبة الأميركية من أصول يابانية جولي أوتساكا “بوذا في العالم السفلي”، في إخراج بديع لريشار برونيل.

“بعضهن لم ير البحر قطّ” هو العنوان الذي اختاره المترجم الفرنسي لرواية الكاتبة الأميركية من أصل ياباني جولي أوتساكا “بوذا في العالم السفلي” (وهو العنوان الذي احتفظ به كاتب هذه السطور في ترجمتها العربية الصادرة عام 2016 عن دار مسكلياني بتونس).

هذه الرواية التي فازت بأهم الجوائز في أميركا وفرنسا شدّت القراء بأسلوبها الفريد لا محالة، ولكنها شدت الاهتمام أيضا بالموضوع الذي تناولته، وهو عبارة عن مأساة منسية، عاشتها مجموعة من الفتيات اليابانيات في مطلع القرن الماضي. فتيات معدمات من أرياف اليابان وقراه النائية هاجرن إلى أميركا للالتحاق بأزواج لا يعرفنهم، طمعا في حياة غير التي كن يعشنها في مزارع الأرز البائسة، وفي أنفسهن رغائب أنثوية بفرحة العمر، ومخاوف منح الجسد لرجل غريب في بلد غريب.

رحلة شاقة في قعر باخرة قديمة تمخر عباب المحيط الهادئ باتجاه كاليفورنيا، تنجاب عن واقع مرّ يرديهنّ إلى درك وضيع، حيث يكتشفن أن الواقع غير ما حملته الرسائل، وأن الصور المرسلة يرجع عهدها إلى عشرين عاما على الأقل، وأن الأزواج الموعودين عمال كادحون في مزارع القطن والخضروات، لم يروموا الاقتران بهنّ إلاّ للتنفيس عن رغبة طال بها الكبت في المهاجر الأميركية، أو للإنجاب، أو لمدّ يد المساعدة في أعمال الزراعة وجني المحاصيل والأعمال المنزلية، أو لكل ذلك في الوقت نفسه.

ولا عزاء لهن في بلد ليس لهن فيه قريب أو صديق، يجهلن لغة أهله وعاداتهم وطقوسهم وعنصريتهم البغيضة، ولا أمل لهن في العودة، لأن الأهل دفعوهن إلى الهجرة.

وسرعان ما يكتشفن أن الأزواج جاؤوا بهن لتوفير عمالة مجانية في المزارع المنتشرة في أرياف سان فرانسيسكو، يعملن طوال النهار بغير انقطاع، ويبتن في العراء أو في أكواخ وضيعة خارج العمران، ويتنقلن من ربع إلى ربع كالقبائل الرحل، ويعاملن كما يعامل السود في مزارع القطن، لا حق لهن غالبا (وكذلك أزواجهن) في الحِلّ بهذا الموضع أو ذاك، لأن البيض يحرّمونه عليهم جميعا.

ثم تتشعب بهن المسالك، فتفلح منهن القليلات ليدخلن بيوت البيض خدما ومربيات أطفال، أو يمارسن أعمالا هامشية في الفنادق والمطاعم والخمارات التي تملكها الجالية اليابانية، وتهوي في الرذيلة من تفقد الحامي بعد حادث أو وفاة أو طلاق، وينجبن بنين وبنات يتشبهون بسكان البلد المضيّف، وينكرون تراث بلادهم وتاريخها وحضارتها، وينهضون لبناء حياتهم الخاصة بنجاحات متفاوتة، ويكتشفون بدورهم الميز العنصري.

“بعضهن لم ير البحر” تنقل صور العذاب والمهانة كما عاشتها اليابانيات المهاجرات إلى أميركا في مطلع القرن العشرين

ثم تنفتح أبواب الجحيم بعد قصف بيرل هاربر عام 1941، الذي عقبه إشهار أميركا الحرب على اليابان، فإذا بالجالية اليابانية كلها طابور خامس، يشار إليها بالظنون، وتجبر على ارتداء أزياء خاصة يعتليها رقم تسجيل مميز، وتعامل كما يعامل الخونة أثناء الحروب، فتعزل في مخيمات قبل إبعادها إلى أماكن لا يستقر حولها رأي، وزال برحيلهم كل أثر لوجودهم.

اعتمدت الرواية في تصويرها مآسي أولئك اليابانيات البائسات على ضمير المتكلم الجمع (نحن)، وفي ذلك إلحاح من الكاتبة على حقيقتهن المغيبة منذ مطلع القرن العشرين في سجلات التاريخ الياباني والأميركي على حدّ سواء، فالرواية خالية من الأبطال ولا ذكر لأسماء إلاّ ما ندر، ولا أثر لحوار إلاّ ما ينتأ بين السطور بشكل أحادي وبخط مغاير.

رواية بوليفونية، تعددت فيها أصوات أولئك البائسات وأزواجهن وأطفالهن، وأصوات صداقات قليلة نسجنها في الديار الغريبة، وعداوات لقينها ممن يحترزون من الغريب، خصوصا إذا كان من ملة أخرى.

تلك المآسي الصامتة، والمصائر المحطمة، والحيوات الأليمة، أفلح ريشار برونيل في تصويرها على الخشبة، والحفاظ على لزوجتها وسخونتها بشكل مقنع، وكان للسينوغرافيا، وتغير الأمكنة والأزمنة، والاستعمال المعتدل للفيديو، والمناخ الهادئ للعرض مع حيوية تجلياته، دور كبير في جعل العمل مؤثرا إلى حد بعيد، لاسيما من جهة معانيه الإنسانية العميقة، ينقل صور العذاب والمهانة كما عاشتها تلك اليابانيات المعدمات.

فقد استطاع المخرج أن يحافظ على الطابع الكورالي للرواية، وعلى تعدد الأصوات فيها، لتكون أشبه بأغنية حزينة، يشدو بها عدد من النسوة، فاعتمد إخراجا سينمائيا للسيطرة على تعدد الفضاء، مع الإبقاء على النفس الأنثوي الحميمي، الواحد المتعدد.

والممثلات، من شتى الأجناس، يابانيات وكوريات وصينيات وفرنسيات، يعبرن عن تفردهن حينا وينصهرن مع الأخريات حينا آخر، في لعبة ظهور وتخفّ يمسك المخرج بأطرافها باقتدار.

ويقول برونيل “خلف ضمير الجمع ‘نحن’، خلف الإنشاد الجماعي الظاهر، تختفي في الواقع عدة حكايات صغرى، وعدة حيوات، كلها مشوقة، مثيرة، مؤلمة.. ذلك ما شدّني في الرواية، أي تلك الكلمة التي تعطى للمنسيين، المسحوقين، الذين لا يُرَون، الذين تهملهم في العادة كتب التاريخ”.

______________

المصدر / العرب

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *