لا يكون المسرح إلا بفعل صدمات اجتماعية وفكرية ووجدانية/عواد علي

يأتي كتاب “الصدمة المزدوجة: المسرح والحداثة”، لعبدالكريم برشيد، أحد أبرز مؤسسي “الاحتفالية” ومنظريها، في إطار مشروع نقدي نظري، يستكمله بكتاب “التأسيس والتحديث في تيارات المسرح العربي الحديث”. والكتابان معا يحيلان على كتب لاحقة منها “التيار التجريبي في المسرح العربي”، “التيار التأصيلي في المسرح العربي”، و”التيار التأسيسي الاحتفالي في المسرح”.

يكشف برشيد، في الكتاب، الصادر عن دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة، عن اللحظة الأساسية والمؤسسة للمسرح، لحظة الاحتفال الغريزي الأولى، ذلك الاحتفال الذي يرتقي جماليا ليصبح فنا، أو فنونا مركبة، ويرتقي أدبيا ليغدو نصا مسرحيا كاملا، ويرتقي ذهنيا ليكون فكرا، أو رؤية فلسفية.

ولأنه لا شيء يتأسس في الخواء، من دون مقدمات وفرضيات وخلفيات وسياقات، فإن برشيد يحاول هنا ملء الفراغات، وإعادة اكتشاف المقدّمات، ووضع المعاني في سياقاتها، والربط بين صدمتين أساسيتين في الوجود العربي، صدمة المسرح وصدمة الحداثة.

ويرى أن اكتشاف المسرح، أو اختراعه، لا يمكن أن يكون إلا نتيجة لصدمة اجتماعية وفكرية ووجدانية وروحية أيضا.

انطلاقا من رؤيته الاحتفالية، يؤكد برشيد أن المسرح ليس هو هذه البناية التي تسمى “المسرح”، أو “التياترو”، وإنما الثورة الاجتماعية التي يمثّلها هذا المسرح، والتي تتجسّد في التلاقي والحوار وثقافة الاختلاف والتسامح، وفي التفكير بصوت مرتفع، والمشاركة الوجدانية. إنه نظام ثقافي متكامل يقوم على الكشف والمكاشفة، وعلى الانفتاح والتحرر.

وفي هذا السياق يكشف برشيد عن مأزقين يقع فيهما البعض من الباحثين العرب، هما: أولا مأزق الرؤية الانتقائية، وهي التي تتمثّل في دراسة المسرح من خلال أحد مكوناته فقط، كالنص مثلا، وبهذا يصبح المسرح هو النص الدرامي، ويجري تغييب المكونات الأخرى التي تؤسس المسرح، سواء في مستواه الأدبي (نثرا أكان أم شعرا)، أو في مستواه الفني والتقني، أو في مستواه الصناعي، الذي يتمثّل في أنه إضاءة وأزياء وأقنعة ومناظر وملحقات، أو في مستواه الهندسي، الذي هو مكان معيّن له موقع في المدينة، وفضاء عمراني يتميز بهندسته الخاصة، التي لها وظيفتها وجماليتها، وتناغمها مع هندسة المدينة ككل.

كتاب يتناول موضوعات مثل من التمثيل إلى المسرح والتمثيل والكائن الممثل والتمثيل الاجتماعي والمسرحي

وثانيا مأزق الرؤية الجغرافية، وتتمثّل في تعوّد الباحثين على تقسيم المسرح العربي اعتمادا على التقسيم الجغرافي وحده، وبهذا يصبح المسرح انعكاسا للخارطة السياسية والجغرافية والإدارية، بدلا من أن يكون صوتا للخارطة الوجدانية والفكرية والروحية والإبداعية.

محاكاة أم مسرح

يؤاخذ برشيد البعض من الباحثين العرب على عدم تمييزهم بين غريزة التمثيل الفطرية وفن المسرح، بوصفه مؤسسة اجتماعية وثقافية وحضارية، حيث ذهبوا إلى اعتبار كل ظاهرة فيها محاكاة وتقليد ولعب مسرحا (الحكواتي، الفداوي، القوّال، السامر، الحلقة، التعازي، خيال الظل، القره قوز…إلخ)، حتى غدت المسارح العربية أكثر عددا من المسارح العالمية المختلفة! وقد غفل هؤلاء الباحثون عن أن التمثيل هو ضمير المسرح الظاهر والمستتر معا.

وهو السفر الذهني، والترحال الوجداني والروحي، والانتقال من هوية إلى هوية أخرى، ومن حال إلى حال، ومن مقام إلى مقام… إلخ. وعليه فقد كان ضروريا الانطلاق من التمثيل لدراسة الظاهرة التمثيلية أولا، والمؤسسة المسرحية بعد ذلك.

ويقارن برشيد بين التيارات المسرحية الغربية وتجارب المسرح العربي، مبيّنا أن الأولى تنطلق دائما مما هو فكري لتصل، بعد ذلك، إلى ما هو فني وتقني وشكلي، ضاربا مثلا بالمسرح الملحمي، الذي يقوم على الصراع الجدلي، وعلى تحويل ذلك الصراع الشعوبي القديم، أو الديني، إلى صراع طبقي وأيديولوجي جديد، كذلك مسرح العبث، الذي ينطلق من رؤية فكرية عبثية للوجود حاولت أن تجد لها معادلا موضوعيا، فكانت النتيجة أن انسحب العبث الفكري إلى الشكل، فأصبح مسرحا عبثيا مبنى ومعنى. وبخلاف هذا تماما، ينطلق المسرح العربي، في الكثير من تجاربه المختلفة من الشكل ليبقى سجين هذا الشكل، ينطلق منه، ويعود إليه، ولا يستطيع أن يفلسف الظواهر الشعبية، أو أن يستخرج ما تخبئه من مضامين فكرية غنية.

خصوصية التمثيل العربي

يرى برشيد أن للتمثيل العربي خصوصية، مقارنة بالتمثيل اليوناني والأفريقي والشرقي، فهو متعدد الانتماءات، وذلك بحكم وقوعه عند ملتقى الطرق والثقافات والحضارات، ينتمي إلى الثقافة الآسيوية، من جهة، وإلى ثقافة البحر الأبيض المتوسط، من جهة أخرى.

فمن طبيعة الممثل العربي أنه لا يمثّل أبدا، فهو يحكي أكثر مما يحاكي، ويلقي أكثر مما يؤدي، ويقدم الآخرين أكثر مما يقدم نفسه، ويرتجل أكثر مما يستظهر، وشاهد على الحدث أكثر مما هو متورط فيه. وهو بهذا مخلص لثقافته العريقة التي تقوم، أساسا، على الشعر والخطابة والحكي الشعبي. ويستند برشيد في هذا التوصيف إلى ما جاء في كتاب الجاحظ “البيان والتبيين” من أن “كل شيء للعربي إنما هو بديهة وارتجال، كأنه إلهام، وليست هناك معاناة،

ولا مكابدة، ولا إجالة فكر، ولا استعانة، وإنما هو يصرف وهمه إلى الكلام، وإلى رجز يوم الخصام، أو حين يمتح على رأس بئر، أو يحدو ببعير…”.

لكن هذا الكلام يحتمل الاعتراض، فربّ قائل يقول إن الطبيعة المتوارثة شيء وفن التمثيل شيء آخر، الأولى عفوية تقوم على البداهة، والثاني يقوم على أسس مدروسة وتمرينات على الجسد والنطق، وفقا لمدارس التمثيل (التقمصية والتغريبية)، وإلاّ ما جدوى أن يُدرّس هذا الفن في الكليات والمعاهد الفنية؟ ثم أين تأثير وقوعه عند ملتقى الطرق والثقافات والحضارات؟ إن برشيد، وهو يشير، في هذا السياق، إلى ثلاثية: الحكواتي، والمقلد، والمدّاح، التي تشكّل أصول التمثيل العربي عند توفيق الحكيم، يريد التأكيد على دعوة التيار الاحتفالي إلى أن يكون التمثيل احتفالا عاما يعتمد على المحسنات الجمالية، انسجاما مع طبيعة الثقافة العربية.

المصدر/ العرب

محمد سامي / موقع الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *