كل شىء رهن التوقع والاختيار فى «الغرف الصغيرة» / هند سلامة

المصدر / محمد سامي موقع الخشبة

غرف صغيرة مغلقة تحتضن مشاعر مختلطة من الحب والخيانة والرغبة والكتمان والتملك؛ قصة قصيرة أو إن شئت صغيرة لأربعة أفراد يحاولون جاهدين الخروج من رقابة العالم كى يمارس كل منهم حريته كما يشاء دون خوف أو توقع حدوث الأسوأ، دائما ما تطاردهم الرغبة فى الحب المحبوس بين جدارن هذه الغرف.

شغف الحب والخيانة

تدور أحداث المسرحية «الغرف الصغيرة» فى دمشق موطن الكاتب ومؤلف العرض وائل قدور، فى عام 2010 بين صبا وسعد وحنان وعمار، مجموعة من الأشخاص جمعتهم مشاعر متضاربة ومعقدة، فالأولى تعانى الوحدة ولديها شغف خوض تجربة عاطفية دون أن تحسب حساب لأحد لأنها على حد قولها حبست بين اربعة جدران ولم تستطع الخروج للعالم وممارسة حياتها بشكل طبيعي؛ فتقرر خوض تجربة علاقة كاملة مع حبيبها الجديد سعد الذى يعمل بالبقالة المقابلة لها مع مراعاة والدها المريض الذى يحيا فى غيبوية كاملة ودائما ما يطل عليها صديقها عمار الطبيب الذى يتابع حالة والدها ويستمع إلى شكواها ومخاوفها واسرارها؛ ويحاول ان يجد لها حلولا وفى المقابل يحكى لها ايضا عن شكوكه فى زوجته التى يشعر بخيانتها ولا يعلم كيف يؤكد هذه المخاوف.

حب ما بين التملك والكتمان

مجموعة من المشاعر المتضاربة جمعت ابطال هذا العرض ففيه رفع النساء شعار الكتمان والتراجع عن الحب أو الانتحار؛ ورفع الرجال حب التملك، فبطلة العرض الأولى «صبا» التى تعيش فى منزل والدها المريض تعانى من خلل نفسى بسبب حبسها المستمر بين هذه الجدران وبسبب اخوها الذى يهددها وجوده طوال الوقت والذى يكتفى المخرج والمؤلف بذكر سيرته ضمن احداث العرض وكأنه الشبح الكبير بحياتها الذى لا يظهر ولو مرة واحدة، فهو دائما يأتى فى سياق الكلام  وتعلن  مخاوفها من أن يعلم بما يدور بينها وبين حبيبها الذى قررت أن يدخل حياتها وتسلم له نفسها لأنه الوحيد الذى يحنو عليها، لكنها تكتشف رغبته فى مضاجعتها فقط؛ فتحاول الانتحار للمرة الثالثة لأنها سئمت هذه الحياة واصبحت تعسة، وربما يساعدها على كشف أمره صديقها الدكتور عمار الذى يأبى استمرارها فى هذه العلاقة ويحاول جاهدا صدها عنه بكل السبل..!

 غموض الحيرة والتأمل!

بعد استعراض حياة صبا وكل عقدها ومخاوفها التى تحيا بها بائسة يدخل الكاتب فى مستوى آخر من العلاقات وهى علاقة الدكتور عمار بحنان زوجته الذى يتشكك دائما فى تصرفاتها حتى أنه يضع كاميرا للمراقبة كى يكتشف خيانتها فى غيابه لكن دون جدوى تبقى الأسئلة والشكوك معلقة بغير إجابة شافية حتى عندما يوجه لها اسئلة مباشرة عن سبب رغبتها فى الطلاق والانفصال تجيب بأنها اصبحت لا تحبه ثم تريحه بأنها على علاقة بشخص آخر، فهل هى حقا كانت على علاقة بآخر أم كان جوابها مجرد حيلة للخلاص من هذه العلاقة ولماذا يتمسك بها رغم خيانتها ؟!!

مؤلف لم يتورط فى إجابات شافية

أسئلة كثيرة وتفاصيل إنسانية لعلاقات متشابكة؛ يطرحها هذا العمل دون أن يتورط الكاتب فى الإجابة على سؤال واحد؛ بل ترك الأمور مفتوحة للتوقع فمن حق كل منا توقع وتفسير ما يشاء، خاصة فى التحليل النفسى لشخصيات ابطاله، فكل منهم يعانى من أزمة تخصه، فصبا معقدة لأنها لم تحيا حياة كريمة مما دفعها لإرتكاب ثلاث جرائم الأولى محاولتها لقتل نفسها ثم قتل القطة التى أهداها لها صديقها بعد ضجرها من سوء تصرفها ثم اتفاقها فى نهاية العرض مع الدكتور عمار على قتل والدها كى ينتهى عذابهما ويتزوجا ويعيشا بعيدا عن كل هذه الأزمات، ثم تعترف فى نهاية العمل بأنها هى من قتلت قطتها ولم تمت بفعل القدر كما ظن صديقها؛ كما ذكرنا يفتح الكاتب للمتلقى مساحة من التفكير ومن ثم التأمل لهذه الشخصيات المتناقضة؛ فقد تطرح مجموعة من الأسئلة هل من الممكن التعاطف مع صبا برغم شروعها فى كل هذه الجرائم؟! وماذا عن علاقتها غير المشروعة مع حبيبها وهى ترى أنه ليس أمرا مشينا ولم تهتم بنظرات الجيران والمجتمع؟!، بل اهتمت فقط بسعادتها وتحقيق رغباتها المكبوته التى حرمت منها سنوات طويلة، وهل تقبل وصاية عمار عليها بمنعه لها بإلإستمرار فى هذه العلاقة فهل هو أحبها فعلا أم شعر تجاهها بنوع من الشفقة؟؟!

فتح خيال المتلقى بالتردد والحيرة

 تكمن متعة النص لكاتبه وائل قدور فى الغموض والحيرة، بطرحه للمزيد من التفكير والتساؤل وفتح خيال المتلقى كى يتصور ما يشاء؛ وربما ترددك فى التعاطف مع ابطاله فقد تتعاطف معهم بحكم ان معظمهم ضحايا اقدارهم التى لم يختاروها بمشيئتهم وبالتالى قد تبرر افعالهم حتى حب عمار فى تملك زوجته أو تملك حبيبته فهو لا يريد ان يخسر شيء فإن كان لا يحب زوجته كما يدعى فهو لا يريد التنازل عنها او ربما لايريد التفريط فيها لأن هذه كانت إرادتها وليست إيرادته؛ بجانب حبه لتملك صديقته او حبيبته التى لم يسمح لها بالبقاء مع غيره فحرص على التمسك بها وفعل لها ماشاءت كى تبقى معه حتى النهاية، ثم سعد الذى يكشتف فيما بعد حبه لصبا ورغبته فى العودة إليها، حملت شخصيات العمل الكثير من الإهتزاز وعدم الإستقرار النفسي؛ بإستثناء زوجة عمار حنان التى ربما كانت الشخصية الأوضح والأكثر ثقة وقدرة على اتخاذ القرار فهى تريد تطليق زوجها ولم تتردد ولم تتراجع فى قرارها بل حاولت وبكل قوة الوصول إلى ما تريد وربما تعكس هذه الشخصية الفارق الطبقى أو الإجتماعى بينها وبين صبا وسعد ظهرت فروق التربية والجرأة على الإقدام على الفعل ورد الفعل؛ ثم اتخاذ القرار، كانت من نصيب الأكثر تمتعا بالحرية والحياة حتى أنها لم تخجل من مواجهته بوقوعها فى حب شخص آخر أو ربما لم تقع فكل شيء كان رهن التوقع والإختيار!

التمثيل بإيقاع سينمائي

 لم تتوقف متعة هذا العمل عند دقة التفاصيل فى رسم شخصياته ولكن ضاعف من متعته ومعايشة الجمهور لأحداثه التمثيل والإخراج بطريقة ناعمة هادئة ربما أقرب للأحاديث اليومية الليلية الأكثر حميمية بينك وبين حبيب أو صديق؛ ففى داخل منزل صبا الذى يبدو شبيها بغرفة صغيرة احتوت على مقعدين وطاولة عليها قهوة التى دوام اصحابها صبا وعمار على احتسائها معا أثنا أحديثهما التى لا تنقطع؛ ديكور صمم ببساطة شديدة وبتمثيل أقرب إلى ايقاع السينما من المسرح، ثم يتغير الديكور بتغير مفارش المقعدين فقط وبإضاءة نجفة صغيرة فوقهما ليصبح منزل او غرفة عمار وزوجته التى يتحدثان فيها عن وصول علاقتهما إلى نهايتها، عذوبة وايقاع هاديء وبسيط وإنفعالات محسوبة بالورقة والقلم بأداء تمثيلى محترف ورفيع لأبطال عرض «الغرف الصغيرة» داخل قاعة مسرح فريق الورشة بشارع شريف للمخرج حسن الجريتلي؛ تشعر كما لو أنك تجلس فى منزل أحدهم وتتابع حوار إنسانى طبيعى لا يشوهه الإفتعال، العرض بطولة أحمد شكري، داليا الجندي، سيف الأسواني، عبير علي، وإعداد النص باللهجة المصرية شادى عاطف، سينوغرافيا نشوى معتوق، ليلى عمرو، إضاءة شريف الدالي، ويقول حسن الجريتلى مخرج العرض فى كلمته عن إكتشافه للكاتب السورى وائل قدور..اكتشفت الكاتب والدراماتورج السورى وائل قدور بمناسبة تظاهرة كبيرة عن الكتابات المسرحية العربية الجديدة فى مركز ثقافى هام بمرسيليا عام 2013 وكانت القراءة الممسرحة «للغرف الصغيرة» التى حضرتها فى هذا الإطار بسيطة ومؤثرة، ومنذ ذلك التاريخ بقى الحوار الذى كتبه وائل فى ذهني، نحن هنا فى مجتمع محدد، فى سوريا حيث يحكم النظام الإجتماعى العلاقات بين كافة المواطنين ويخنق أى إمكانية للحب.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *