في قلب بغداد .. عرض لموت يحيا ويتجدد ويسأل .. بقلم : يوسف الحمدان

في قلب بغداد .. عرض لموت يحيا ويتجدد ويسأل ..

بقلم : يوسف الحمدان

تعتبر مسرحية ( في قلب بغداد ) للمخرج العراقي المبدع مهند هادي ، واحدة من أهم العروض المسرحية المشاركة في مهرجان الهيئة العربية للمسرح في نسخته العاشرة والمقام بتونس ، حيث تتداخل في هذا العرض عدة أشكال مسرحية تجذي الفجائع البغدادية التي تجري أحداثها في الشارع الحي الميت وفي جحيم الموت الملتهب والمدمر لكل نفس بشرية في هذا الشارع ، ومن أهم الأشكال التي اتكأ عليها كما يبدو لي المخرج هادي في عرضه هذا ، مسرح الشارع ومسرح الجريدة ومسرح الموت ( الماريونيتي ) لتادوش كانتور .

تتداخل هذه الأشكال في هذا العرض ، لينتج منها المخرج هادي عرضا مسرحيا جديدا ينتمي لرؤيته الفكرية والجمالية ، حيث ينزعها من بيئاتها المعروفة ، ليحاورها ويستضيفها في عرض مسرحي ركحي الموقع سينمائي الاشتغال ، حيث تصبح الأحداث وثيقة حية لما يحدث في الشارع البغدادي ، وصورا متخيلة لموت أكثر فداحة وغرابة مما يحدث في هذه الوثيقة ، مع احتفاظه بإيقاع نبض تلك الأشكال التي تجعل من الشارع والجريدة بيئتان لأحداث يومية لا تتوقف ودائما في حيز اختبار مزدوج بين المؤدي والمتلقي ، بجانب استثماره لحالة الموت القهرية المبشعة الكافكاوية النزوع في بعض ملامحها ، كما هو الحال في الممثل الماريونيت لدى تادوش كانتور .

ونلحظ إيقاع هذا النبض منذ الوهلة الأولى لدخول المتفرج قاعة العرض ، حيث تسيطر على المكان أجواء الحرب والطواريء ونقاط التفتيش والهلع والقلق ، بجانب أصوات السيارات والإسعاف وصفارات الإنذار ، وحيث يصبح الممثلون الأربعة أو الخمسة مجتمعا تضيق به شوارع بغداد ، فأنت في قلب بغداد منذ الوهلة الأولى ، وأنت في قلب الفجيعة منذ اللحظة التي ينكمش فيها هذا النبض وكل الشارع البغدادي في أجساد متمثلة متخشبة مشمعة متشابكة في كتلة واحدة ، تستحث موتها المفجع للحياة من جديد في شارع أكثر فدحا من الفجيعة التي أقبرتها وأحيتها على الموت من جديد .

هي تجربة امتداد معمق لتجربة المخرج هادي السابقة ( الكامب ) التي تسنى لي مشاهدتها في مهرجان دمشق المسرحي العربي عام 2010 وفي بيروت ضمن مهرجان الهيئة العربية للمسرح عام 2011

فإذا كنا في ( الكامب ) في مواجهة عرض مسرحي تنبثق أحداثه المؤلمة من أحياء وحارات بغداد ، عبر أبواب مفتوحة على بعضها ، وتؤول بك إلى القهر الاجتماعي الفادح ، فإننا ( في قلب بغداد ) نكون في مواجهة موت يرثي فجيعته ويدين من ورطهم فيها .

هي اشتغال بحثي متواصل على نبض الشارع البغدادي المعرض للموت المجاني في كل لحظة ، اشتغال على القلق الشعبي المتواصل ، اشتغال على الإنسان الهارب نحو حتفه ، اشتغال على التفاصيل الدقيقة للوجع الإنساني في بغداد ، اشتغال على اللا جدوى من حياة كل ما فيها يرتاب فيك حد الشك ويقتلك من الداخل قبل أن تتربصك المتفجرات التي لا يكف زعيقها لحظة صمت واحدة في الشارع البغدادي ، اشتغال على الأمل أو الحلم الموؤود ، هي اشتغال بحثي على الصورة الخبرية المتلفزة الفاجعة وعلى الخبر الصحفي الذي يتربع فيه الموت والدمار عرش الصحيفة كل لحظة أو ثانية .

يأتي هذا الاشتغال البحثي ليفتح أبواب الأحياء والبيوت والأزقة في ( كامب ) بغداد ، على مصاريع شارع الأحداث ( في قلب بغداد ) ، ولنكون في الآن نفسه في مواجهة ( مونتاج ) تلفزيوني سينمائي ، يأتي حينا بوصفه وجهة نظر للمخرج المؤلف هادي ، وأحيانا بوصفه وجهة نظر مهندس الأحداث الحي والخفي والمريب في الشارع البغدادي كله .

أبواب وشاشات وأطر تتحرك باتجاهات مختلفة حاملة معها دلالاتها الفجائعية الغريبة ، وتحدد ملامح الأحداث والوجوه وتخفي حقيقتها حينا وتبرزها في وضع تلتبس عليك حينا آخر هوية شكله أو نوعه ، وكل هذه الأبواب والشاشات والأطر بمثابة صفحات جريدة يتصفحها الصحفي ( فرج ) الذي لم يذق طعم الفرج قط في حياته ، في صيغة حكاية لأحداث تتوالى مشهدياتها الفجائعية لتدمر في نهاية الأمر مسار التسلسل لهذه الحكاية ، إنها لحظات متواصلة لهدم البنى التي يقتضيها الموت والتي يعيد إنتاجها لتكون أكثر تفككا وتشظيا من اللحظات التي سبقتها .

إنها هذيانات وهلوسات وهسترات الفجيعة في قلب بغداد ، حيث يلتئم الشارع الذي يلتهم حبوب النسيان مع الشارع السكران ، وحيث يسخر الموت من نفسه إذ يحيا ميتا ، وحيث يتجاور الصمت والصوت والصدى وسكون الموت في كتلة واحدة ممزقة ، وحيث تضيع حتى حقوق الموتى في موتهم ، إنها مفارقة صعبة وإشكالية ينصب المخرج هادي فخاخها وشراكها أمام حيواته الميتة وأمام المتلقي ، كي نكون في ورطة الموت المزدوج ، وليس في ورطة النقائض التي اعتدنا مواجهاتها المعلنة في كثير من العروض المسرحية .

وقد أسهم المونتاج بمختلف انواعه وملبياته الضوئية والصوتية والحركية أيما إسهام في إبراز حجم هذه المفارقة الكافكاوية أو الكانتورية الغرائبية ، ولعل من أغرب هذه الغرائب هو البحث عن لون أسود في الأسود نفسه ، أو البحث عن لغة في ضحكة تضج بالبكاء ، أو البحث عن حلم لدمى في عالم يكتظ بالعتمة ، أو البحث عن زمن في اللا زمان ، أو البحث عن حكم يصدر على من هو محاكم بالموت أصلا ، أو البحث عن حياة لكائن حياته مكفن بورق الجريدة ، وبعد كل هذا البحث التساؤلي العبثي الفادح ، يطفر سؤال في العرض يفاقم من حجم المفارقة الفجائعية ” هل يعقل أن تحدث كل هذه الفجائع في شوارع بغداد ؟ .. معقولة ؟ ” ،

كل هذه الأحداث يرسم لها المخرج هادي خطوطا متقاطعة وحركة غير مستقرة ، تتكيء على المونتاج الخبري التلفزيوني السريع والمبرق الذي تستدعيه لحظات الإنفجارات والاستغاثة وإرباكات المشهد اليومي غير الواضحة ، إلى درجة يزج فيها بمصور يحمل كاميرته ويرصد الأحداث مباشرة ، ليضعنا هادي في ورطة الحدث الحي وليس المصور أو المنقول ، كما يضعنا أمام ملتبس آخر في التجربة ، إذ من هو هذا المصور؟ مع من ؟ كما هو حال محرك الحقيبة ، من هو يا ترى ؟ هل هو من يرسم الأحداث أو الذي يدير اللعبة في الشارع ؟ أم .. أم .. أم ؟ وفي نهاية الأمر يعود الموت مجددا إلى ماريونيته الجديد انتظارا لفجائع لم تلتقط أحداثها الجريدة بعد ، ولم تقتنصها كاميرا التلفزيون كذلك ، ليعلن أن الفدح أقوى من كل أجهزة الإخبار والإتصال ..

إنها مسرحية تكتظ بأسئلة النبض الميكروفيزيائي لحياة الموت والفجيعة في الشارع البغدادي ، وفق المؤلف المخرج مهند هادي في نثرها على متفرجي العرض بجرأة كبيرة وبجرع مرة يصعب تحملها أحيانا ، فتحية لكل من أسهم في إحياء هذا العرض المحاور للرؤوس والمشاكس للبكائيات المسرحية العراقية التي عهدناها في مسرحيات أخرى .

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *