فصل من كتاب “نظريات حديثة في الأداء المسرحي، من “ستنسلافسكي الى بوال” تأليف جان ميلنج وجرهام لي وترجمة إيمان حجازي

“نظريات حديثة في الأداء المسرحي، من “ستنسلافسكي الى بوال” تأليف جان ميلنج وجرهام لي وترجمة إيمان حجازي كتاب  عن منشورات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، يتناول التجارب الأساس للاتجاهات والمدارس التي قامت في القرن العشرين حول الممثل، والأداء والنظريات والأعمال التي جسدتها.
 
ومن محتويات الكتاب “نظام ستنسلافسكي النظري” “اقتراحات من أجل الإصلاح: آبيا وكريج” و”الجبهة الشعبية، مايرهولد وكوبو”، و”ارتو والبيان الرسمي”، و”غروتوفسكي والتدريب النظري”، و”تاريخ بوال التنظيري”.
 
وفي  الكتاب فصلاً حول “نحو مسرح فقير” لغروتوفسكي، وهو الكتاب الذي أحدث ثورة في علاقة الممثل بالنص، وعلاقة الممثل بالخشبة وبالمخرج…
 
نحو مسرح فقير
 
كتاب “نحو مسرح فقير” عبارة عن مجموعة من المقالات، ومقابلات وأحاديث أخذت بعد الدورات التدريبية التي أقامها غروتوفسكي في الخارج، ومن إجابات عن أسئلة طرحت في ندوات ومحادثات مع الأصدقاء المقربين أمثال باربا، ومن ملاحظات عن العرض والبرنامج المسرحي ووصف لجلسات التدريب وتوجيهات للطلبة في المعمل. ليس كل العمل خاصاً بغروتوفسكي: كان باربا المسهم الرئيس الآخر وكان لودفيك فلازين، الناقد ودراماتورجي الفرقة، كان قد كتب عن معالجة النصوص، أنتجت وجبة النصوص الخفيفة هذه مجموعة من الأصوات والمسرحيات ذات ديناميكيات مختلفة تماماً. ومع ذلك، وحيث أن الهدف العام بدا وكأنه يسعى الى إدخال الناس في معتقد جديد نيابة عن عمل غروتوفسكي، لذا كان هناك تكرار كثير وتجاوز في المجلد. فلم تكن قراءة غروتوفسكي تتم قط بشكل مباشر؛ لأنه كان قد طور مكانة متناقضة على مدار فترة عمله في المسرح وخارجه، وغالباً ما كان يتم تهذيب واستكمال مقولات من خلال أصوات معاونيه. اشتمل كل من هذا الكتاب وكتاب “العمل مع غروتوفسكي” على قدر كبير من الكتابة من قِبَل الذين يتعاونون معه في العمل وتتحكم علاقة هؤلاء الكتاب بالعمل وبغروتوفسكي نفسه بما يركزون عليه في كتاباتهم. فالوصفان الخاصان بأنشطة تدريب الممثل يمثلان وجهتي نظر مختلفتين تماماً، ترى الأولى أن “تدريب الممثل (1959 ـ 1962) هو تسجيل قام به باربا، لتدريب يومي لأعضاء الفرقة. ويأتي الوصف الثاني لتدريب الممثل (1966) من ملاحظات دونها مخرج بلجيكي شاهد تدريباً قصيراً قام به غروتوفسكي وكيازلاك. وبدلاً من مجرد شرح الخطوط العريضة للتدريب، شرح التقرير تفاعل غروتوفسكي مع الطلبة تقريباً بالكامل، وكذلك تجربة التواجد في الأستوديو معه ومع كيازلاك كما وصف تدريب الممثل ذاته. وبالمثل، تكشف الأسئلة التي شكّلت المقابلات التي جاءت في “نحو مسرح فقير” كثيراً عما يشغل السائلين، وأحياناً ما كان للإجابات التي يحصلون عليها تأثير لا يشترك فيه العمل الذي قام غروتوفسكي وحده بتأليفه في مكان آخر. لذلك تبع لقاء باربا، الذي أعطاه عنوان “العهد الجديد للمسرح”، تبع اهتمامه بالممثل “المقدس” وبالعناصر الطقسية لعمل غروتوفسكي، في حين سيطر الاهتمام بالعمل في النصوص على مقابلة نيام كاتان الكندية. وقد عدل غروتوفسكي أيضاً من تسجيل لغته وفقاً للجمهور. بدأ كتاب “نحو مسرح فقير” كتقدمة هجومية عنيفة على بحث مسرح المعمل الذي كان معداً لصحيفة “روكلو”، فقد غطى معظم ما تناوله “عرض المبادئ”، إلا أن الأخير كان عرضاً ملخصاً ومختصراً للمتقدمين للدراسة في المعمل، حيث كان الإيقاع أكثر جموداً وتوجه الى القارئ مباشرة وخاطبه كمشارك مضيفاً العديد من التوجيهات الى أساليب العمل والتوجيهات المطلوبة في جلسات الأستوديو وفي المعمل بصفة عامة. وعندما خاطب غروتوفسكي الطلاب من مكان آخر، مثل الخطاب الذي وجهه الى مدرسة سار السويدية للدراما، كان أسلوبه تملقياً، وتغير هنا ما كان يؤكد سابقاً على أنه قانون الى عرضه كمجرد اقتراح. لقد قلل غروتوفسكي من طلباته، آخذاً في الحسبان الحقائق التجارية للبيئة المسرحية التي سوف يقبل عليها طلاب مدرسة سار. كانت كل هذه النصوص التي جمعت من أجل “نحو مسرح فقير” تقريباً بين يدي الجمهور بالفعل، نشرت في صحف أو سجلت في أحداث عامة، ظهرت بين عام 1964 ونهاية عام 1967. لم ترتب الكتابات ترتيباً زمنياً، وفي محاولة لتتبع منطق تأليفها، يبدو أنها تقع في ثلاث مراحل: مقدمة لمبادئ مسرح المعمل، واهتمامات نصية، وتدريب الممثل. تحدث غروتوفسكي نفسه عن الكتاب “كنوع من سجل الأداء” أو “كمذكرات سفر فقط” ـ تخبر عن تجارب السنين الماضية ـ تصف تجاربي، إلا أنها تجارب ماضية” (أوسينسكي، 1979، 87، كوميغا، 1987، 145). وبظهور هذه الكتب عام 1968، وصل غروتوفسكي الى نهاية اهتماماته الأولية بالعرض المسرحي. وكان بالفعل في حالة انتقال الى مرحلة أنشطة الـParatteatrical، على الرغم من استمرار Apocalypisis في التجوال في كل أنحاء العالم حتى عام 1980. تضمنت النصوص بوضوح أيضاً فكرة السفر، تلك النصوص التي كتبت جميعاً خلال الفترة التي كانت فيها فرقة المعمل تجول في كل أنحاء العالم، وكان ثلاثة أرباعها تتوجه بصفة أساسية الى الجمهور العالمي. العروض التي نوقشت هي فقط تلك العروض التي قدمت في جولات في مهرجانات وجامعات، حيث جمعت معظم مادة اللقاءات. يسجل المجلد ككل الانتشار الدولي لعمل غروتوفسكي. وهو كمجموعة لم يترجم قط الى اللغة البولندية.
 
 
أخذ عنوان المجلد من مقال كتبه غروتوفسكي محدداً فيه عمل فرقته عندما انتقل أفرادها الى روكلو Wroclow عام 1965. عندما أطلق غروتوفسكي معرضه “فقير” على معمل المسرح، كان يهدف الى تجديد تميّز عمله عن العروض المثيرة للمشاهدة، أو للمسرح المفعم بالصور الذهنية الذي كان غزير الانتاج في ذلك الوقت. ومع ذلك، بالانتقال الى روكلو، مركز كثير من المسارح التجريبية، احتاج أيضاً الى أن يقيم إسهاماً متفرداً خاصاً به في أعمال أكثر تجريبية. وكما يعترف، وكما سجل كوميغا، فإنه أقدم في عروضه المسرحية الأولى على استخدام جريء للملابس والأقنعة والمشاهد.
 
مسرح مصطنع
 
إلا أن غروتوفسكي استبعد ذلك العمل بعبارة مكتظة بأيديولوجية الستينات من القرن العشرين المعارضة للثقافة: “أعرف ذلك المشهد: إعتدت أن أكون جزءاً منه”. استبعد المسرح الفني أيضاً، الذي فسّره في بادئ الأمر في إطار الإخراج، “كمسرح متكامل” مستخدماً كل الأنظمة الفنية “في مسرح مصطنع”. كان الهدف من كلمة “مصطنع” أن تحمل كلاً من معنى “تركيب الأشكال” ومعنى المادة المصنعة. وعن طريق التناقض ـ إذن ـ نتج المسرح الفقير بعملية حذف وتعرية، إلا أن هذا المبدأ قد امتد أبعد كثيراً عن استبعاد ديكور المشاهد غير الضروري، أو رفض أشكال الفن الأخرى مثل الأدب أو العمارة. امتد حذف العناصر غير الضرورية أيضاً الى أبعد من تقنيات أداء الممثلين؛ الى سلوكهم وشخصياتهم. قُدِّم مفهوم الحياة المنفية هذا في المقالات الأخيرة من “نحو مسرح فقير”، حيث يعري الممثل أيضاً نياته في حركة. وبدلاً من الانفعال أو الإقدام على تحقيق حالة أو تدريب، “يستسلم الممثل لعدم القيام بها” وبذلك يقدم المسرح الفقير كشكل أكثر نقاء وغير ملوث بعناصر غير مسرحية وأيضاً كشكل أفضل من الناحية المعنوية حيث: “إن الفقر في المسرح، وقد تجرد من كل تلك الأشياء غير الأساسية له، يكشف لنا، ليس فقط الهيكل الأساسي لوسيلة العرض بل أيضاً العناصر الغنية العميقة الكامنة في طبيعة الشكل الفني ذاته”.
 
الهيكل الأساسي
 
استخدم غروتوفسكي كلمة “الهيكل الأساسي” هنا ليشير الى التجانس المعنوي للشكل الفقير، ويشتمل أيضاً على أنه يكون كهيكل أساسي تحت الغطاء اللحمي للمسرح الغني الكلي. فالمسرح الفقير هو غني بالطبع لكنه غني بمعنى أعمق. ففي كثير من لقاءاته الأولى مع باربا، وفي مناقشات عديدة حول نوع الممثل الذي يبحث عنه، استخدم غروتوفسكي مجاز المسرح الغني بطريقة ثانية، كأحد المسارح التي اشتقتها الحقائق التجارية الملحة والتي لا سبيل الى تجاهلها، حيث يبيع الممثل نفسه في نوع من “الدعارة الفنية”، ونتيجة لذلك، تأتي كلمة “الفقير” لتحمل أيضاً معنى المذهب المتقشف الذي يرفض أيديولوجية السوق التي يكون فيها الممثل مادة تباع وتشترى. جعل هذا واضحاً أيضاً في “العهد الجديد للمسرح”، حيث أكد أن المسرح الفقير “يتحدى المفهوم البرجوازي لمستوى المعيشة. ويقدم بديلاً للثروة المادية. طبق مفهوم “الغنى” أيضاً على أشكال الثروة الأخلاقية والمعنوية الأخرى غير المسرح، وعلى الجماهير والأشكال الجماهيرية للسينما والتلفزيون، والتي تخلق مصادرها التقنية نوعاً من الإخراج لا يستطيع المسرح أن يضاهيه. قاوم المسرح الفقير إغراء السوق الجماهيرية، وحدد نفسه بجمهور من الصفوة لا يسعى الى التسلية أو السلعة الثقافية، “وهكذا نجد أنفسنا بصحبة ممثل وهب نفسه للمسرح الفقير” قبل صانعو المسرح الأميركيون والأوروبيون الغربيون، هذا الرفض لوسائل الاتصال الجماهيري، وهي جملة تتردد كثيراً في هذا المجلد. كانت هناك عناصر كثيرة في الثقافات، التي قضت عقداً من الزمن تجرب “التغيير” توحي برفض الأيديولوجية الاستهلاكية.
 
منتج
 
كيف حدد غروتوفسكي دوره في الفرقة؟ فلم يكن مديراً ولا دراماتورجياً، ولم يكن مهتماً بالسينوغرافيا بصفة خاصة. كان مصطلح “منتج” هو غالباً أكثر المصطلحات التي استخدمها للدلالة على دوره، ففي العمل المبكر، “العهد الجديد للمسرح” استخدم في مقابلة مع باربا، كلمة “منتج” بمعنى “مخرج”. كان غروتوفسكي ينتقد منظمة المسرح التقليدي بقسوة، وكان يمثل ذلك الشخص الذي أصبح “منتجاً” حتى يضع الأشواك فوق كل الفنون، مع أنه في الحقيقة كان عازفاً عنها جميعاً دون أن يكون مقيداً بالعمل الابداعي الذي حمله اليه الآخرون.
 
يرتبط هذا برفضه للمسرح برمته، ومن ثم لعمل المخرج على ربط ودمج العناصر المتباينة في الاخراج. أكثر ما يثير الازعاج، انه في مقال لاحق يقترح أن ما يطلق عليه ابداعاً في المنتج هو “مكون سادي”. ويعترف بأن بعض عناصر الدور التقليدي للمخرج أساسية “لفن القيادة” هذا، بما في ذلك “تعلم كيفية التعامل مع الناس… وهي هبة الديبلوماسية، وهي موهبة باردة وغير انسانية للقيادة ذات الخدع والحيل”. ويبدو انه بدلاً من تحقيق تماسك عناصر المشهد، يكون دور المنتج تحقيق التماسك بين أفراد الفرقة ويتضح خلال المجلد في كل النصوص ان اهتمامه الأساسي باعتباره منتجاً، يكمن في العلاقة مع الممثل. تتميز هذه العلاقة في أوجه كثيرة بوجود المنتج كشخص “مسيطر” و”كطاغية” في حين يستجيب الممثل له “كما يستجيب التلميذ لمعلمه، أو المريض للطبيب، او الجندي لرؤسائه، او كفرد أصغر سناً من أفراد الأسرة: “فعلى المرء أن يكون حازماً مثل الأب أو الأخ الأكبر”.
 
ومع ذلك، فإن وظيفة هذا المنتج كمعلم يحدد كل عمله داخل المسرح وخارجه. وهذه الفرقة تحدد الطريقة التي يفكر بها في علاقته بالجمهور ـ “حتى لو انه ليس بإمكاننا تربية الجمهور ـ بطريقة غير نظامية، فإننا على الأقل نستطيع أن نربي الممثل”. والطريقة التي يُفكر بها في النصوص التي تستخدم وفي الدور الأوسع للمسرح، تتكرر في المجتمع عبارة “تربية الممثل” دون توقف ولأنه في اطار هذا المضمون يصبح تدريب الممثل مهماً جداً. فهو ليس مجرد طريقة لاقامة احساس بالفرقة، او امتداداً للمجال التقني لتعبير الممثل الفرد، أو امداد الجمهور، بشكل غير عادي أكثر للمسرح (مع أن كل هذه العناصر هي نتاج حصيلة للعمل). بصفة أساسية، تكون تربية الممثل وتدريبه دفاً في ذاته. ويقوم المدرب بوظيفة الوسيط المعالج بالنسبة الى الممثل والمنتج، ويمتد تأثيره إلى الجمهور، فهو شكل ايجابي لتنمية الذات.
 
الدهشة
 
في النسخة الأولى لمجلد “العهد الجديد للمسرح” يطلق غروتوفسكي لخياله العنان حول إمكانات مدرسة المسرح، وتدريب الطلاب من الفئة العمرية الأقل من أربعة عشر عاماً، قبل أن تتشكل أجسامهم، من خلال سلسلة من التدريبات العملية والتربية الانسانية التي تُصصم خصيصاً كمثيرات توقظ وعيهم وأحاسيسهم. سوف تستخدم هذه المدرسة خدمات علماء التحليل النفسي وعلماء الأنثروبولوجيا الاجتماعية” ومع ذلك. في نصوص ظهرت بعد هذا التوقيت، مثل “نحو مسرح فقير” رفض ديناميكية المدرس/ التلميذ، وأعاد تعريف عملية التعليم كما يراها:
 
أحتل مكاناً قيادياًخاصاً في معمل المسرح البولندي، فإنني 
 
لست ببساطة مخرجاً أو منتجاً أو مرشداً روحياً. 
 
ففي المقام الأول، علاقتي بالعمل ليست بالتأكيد ذات اتجاه واحد أو تعليمي…
 
فتطور الممثل تحيطه الملاحظة والدهشة، والرغبة في تقديم يد المساعدة فيظهر تطوري عليه، أو يوجد فيه ويصبح نمونا المشترك وحياً، 
 
ليس هذا اعطاء تعليمات لطالب؛ بل انه انفتاح على شخص آخر تصبح فيه ظاهرة “الميلاد المشترك أو البديل” ممكنة.
 
لم يرفض غروتوفسكي القاب المخرج والمنتج والمرشد الروحاني، إلا ان طريقته في اعطاء التوجيه كانت لمساعدة الطالب على اكتشاف الأشياء بنفسه.
 
فقد رأى دوره بوصفه معلماً دوراً سلبياً لا يقوم بالتدريس، بشكل ايجابي، لكنه دور يقوم بالملاحظة وتكون تصرفاته مجرد ردود أفعال، يتشابه هذا في طبيعته مع مفهوم “بالنفي” بالنسبة للممثل ، بدلاً عن عدم فعل أي شيء. الجانب الآخر من دور المنتج هو تقديم غروتوفسكي لنفسه كباحث نشيط. فقد انخفضت مكانة الممثل إلى مكانة المادة التجريبية، ويستطيع غروتوفسكي الباحث أن يزيح التراب ويكشف عما “يوجد” بداخل الممثل. من الواضح أن طبيعة مبدأ “الانفتاح التام” بين الممثل والمنتج لا تشتمل على تغيير في علاقة القوة، ويضم ايضاَ دوراً آخر كمحلل، عندما يصف نشاطه من خلال مجاز “العرض projection” بأنه ينطوي على نوع من التحول ـ المضاد، حيث يعيش المحلل دور الآخر خلال عملية التحليل.
 
على الرغم من تغيير فرقة غروتوفسكي اسمها من “مسرح الثلاثة عشر صفا” إلى “معمل المسرح” ومنحته السلطات البولندية مكانه في “معهد البحث في اساليب الأداء” (1965). فإن غروتوفسكي عانى في كتابته ليحاول السيطرة على معنى “أسلوب”. تؤكد مقال “استكشاف أسلوبي” الطريق الذي يجب أن يسلكه الفنان في بحثه عن “قوانين موضوعية”. لعملية الابداع، والتي تكون ملزمة للممثل الذي يتمنى ان يكون مبدعاً حتى يتمكن من الأسلوب. ومع ذلك، يرفض غروتوفسكي كتابة “وصفة” أو “كيفية” التوجيه. فقد تحمل معاناة تمييز “أسلوبه” عن نوع العمل الذي يروج له كأسلوب ستنسلافسكي. ما يصعب فهمه في هذا الكتاب والذي يفسر الافتقار المحيط إلى التفاصيل في اللغة التي تعمل على نطاق عريض عن طريق المجاز، هو أن تلك العملية ليست أسلوباً، وبعد ذلك أنكر الكلمة تماماً. يكمن جوهر كل أفكار غروتوفسكي المقدمة في هذه المقالات في أن “أسلوبه” هو توجه يجب على الممثلين استحضاره إلى عملهم. يجب أن يوضع هذا التوجه قبل أي نشاط جسدي، سواء أكان ذلك تدريباً أم عرضاً مسرحياً.
 
الثنائية
 
يضع غروتوفسكي هذا النظام الجسدي والتدريبات في مكانة ثانية تلي التوجيه الداخلي. يظهر هذا الفهم لمعنى “أسلوب” تناقضاً داخل كثير من كتاباته في “نحو مسرح فقير”، فلقد حاول غروتوفسكي أن يدحض الانقسام الديكارتي للعقل والجسد، وزعم تقديم أسلوب للعمل يزيل هذه الثنائية وهذا الانقسام. ومع ذلك، بنيت لغته تماماً على الربط بين ما هو داخلي وما هو خارجي وبين العقل والجسد وبين التوجه والتعبير. فعلى سبيل المثال، تحدث بأن “النبضة هي بالفعل رد فعل خارجي” إذا ما عرينا أنفسنا ولمسنا طبقة حميمة غير عادية. وأظهرناها للعيان” لندرس ما هو خفي وراء القناع الذي نرتديه كل يوم ـ الجوهر الداخلي لشخصيتنا ـ حتى نضحي به، فإننا نظهرها يزيل النحات ما يخفي الشكل الذي يوجد بالفعل داخل كتلة الصخر، وبذلك يكشف عنها”. إن النص الذي يكتبه المؤلف هو نوع من المشرط الذي يساعدنا على أن نكشف ما بداخلنا ويجب توجيه بحث “الممثل” من الداخل الى الخارج تظهر هذه الصور المجازية الجسد كمقاومة وكعائق وكشيء خادع داخل أيديولوجية كاثوليكية في الأساس، إن إنزال الجسد عن مكانته يتم من خلال التدريب، ليس كصورة مجازية داخل العروض المسرحية فقط، تلخص هذه اللغة أيضاً التفسيرات المعقدة للجمهور، حيث ان الجسد يقوم بدور المخادع، وهو كتوم وفي الوقت نفسه معبر ومستجيب لاشارات العرض المسرحي.
 
يوجد في كل كتابات غروتوفسكي استخدام متكرر للصور الروحانية، وربما يرجع ذلك الى المضمون الذي كان يكتب فيه، كما هي الحال في قناعاته الشخصية، فقد عانى من أجل الاشارة الى أن هذا الاطار الروحاني الخاص بالمرجع ذو سمة مجازية:
 
لا تفهمني خطأ، فإني أتحدث عن “القدسية”، أعني “القدسية الدينيوية”… فعلى المرء أن يرجع الى لغة مجازية ليقول ان العامل الخادع في هذه العملية هو الذل، وهو نزعة روحانية.
 
يمنح غروتوفسكي ستنسلافسكي لقب “القديس العلماني” ويقبل إيحاء آرتو الأسطوري، وهذا يبرر استخدام الصور المجازية في إطار مادي مثل:
 
اقتراح يهدف الى تحقيق إدراك جمالي متميز Ideolasti فعلى المستوى الشخصي، يجب أن أعترف بأننا لا ننفر من استخدام تكوينات الدجل، هذه، فكل شيء ذي إطار غير عادي أو سحري يثير خيال كل من الممثل والمنتج.
 
وعندما اقترح أن بإمكان الممثلين أن “يتوهجوا” من خلال تقنيتهم الشخصية، ويصبحوا مصدراً “للضوء الروحاني” كان يهدف من استخدامه لعلامات الاقتباس الى تجديد الاشارة كمجاز، وبعد ذلك بصفحة، كيفية تحقيق ذلك على المستوى التقني باستخدام تعبير محد للوجه و”النبض الداخلي” للممثل ليقدم “تأثير التحول المسرحي المؤثر” امتد المجاز الى التجربة بالنسبة الى الجمهور الذي تلقى “تعويضاً” أو تكفيراً عن طريق قيام الممثل بأفعال غير عادية أمامه (TPT38) والذي من أجله ما زال المسرح يحتفظ ببعض من القوة الدينية القديمة التي “تحرر الطاقة الروحانية لجموع الجمهور المحتشد عن طريق دمج الأسطورة، والاستعمال غير المتقن للغة أو بالأحرى تجاوزها… كمحاكاة، ساخرة مقدسة. ومع ذلك فالقوة المتراكمة لهذه الصور والمجازات تشترك مع مضمون النصوص والصور في العرض المسرحي وتدعم إحساس القارئ بالأيديولوجية التي تتضمنها كتابات غروتوفسكي كلها. ومع أخذ العنصر الروحاني في الحسبان، فإن توجه غروتوفسكي نحو آرتو مثير للاهتمام.
 
يجادل غروتوفسكي في “لم يكن ذاته تماماً” بأن آرتو قد تعلم “الدرس الحقيقي للمسرح المقدس”، وهو أن التلقائية والنظام عنصران مدعمان بالتبادل، ومن وجه نظر تقليدية، فإن هذا منهج يشاركه فيه غروتوفسكي. ففي الحقيقة، كانت مقالة غروتوفسكي تقريباً كلها نقداً لكتابات آرتو وأفكاره عن المسرح، إلا أن ما أثار اهتامه هو آرتو الانسان. عند هذا الحد ينتمي كثير جداً من كتابات آرتو الى أواخر فترة الستينات عندما بدأ ظهور أسطورة آرتو، كما تناولنا ذلك في الفصل الرابع، يرى غروتوفسكي أن معاناة آرتو الشخصية ومرضه هما اللذان جعلا منه شخصية مهمة، وأصبح “دليلاً ساطعاً على قدرة المسرح على العلاج والشفاء”.
 
النشوة
 
وبدلاً من أن يتبع نشوة آرتو المجازية، استمر غروتوفسكي في “نحو مسرح فقير”، في العودة الى التمثيل وفي ارتباطه بالممثلين، فقد وضع نفسه كجزء من سلسلة متصلة لعلاقة الممثل ـ المدرب، والتي امتدت بعد ذلك من ستنسلافسكي ودالين ومايرهولد لتشمل آخرين، فقد أشار كثيراً الى تدريب ستنسلافسكي على الأفعال الجسدية، وامتدح طريقته المنهجية في تحضير الممثل، ومع ذلك كانت مطالب آرتو للممثل ذات نظام مختلف تماماً، فحيث دعا ستنسلافسكي الممثلة لتكتشف ما يمكن أن تضيفه الى الدور، رأى غروتوفسكي أن الممثل مدعو الى استخدام الدور “كأداة يمكنه بها دراسة ما هو مخفى خلف القناع الذي نرتديه بصفة يومية ـ وهو الجوهر الداخلي لشخصيتنا. إن المنطق الذي يستند إليه جدل غروتوفسكي أنه أياً ما كانت الشخصية التي تسند الى الممثلة، فإن الدور الذي تلعبه هو “ذاتها” هي. فالهدف المادي، والذي يقدم بنية تنظيمية لدوافع الممثل المرتبطة بالموضوع، يستفيد بقدرة الممثل الجسدية التي يتمتع بها بفضل التدريبات الرياضية. وعلى الرغم من اعتراف غروتوفسكي باختلافه، فإن الصلة بين التمرينات الرياضية والاشارة المسرحية قريبة جداً، كما أوضحت هذا الفقرات عن جلسات الأداء المسرحي والتدريب. وبمعارضته لاشارة العرض المسرحي، يدعي غروتوفسكي بأنه يبحث عن أشكال متأصلة وفطرية موجودة بالفعل في الجسد ومع ذلك، كما أشار إينيس، فإنها غالباً ما كانت أشكالاً للأيقونة الكلاسيكية أو الدينية (إينيس، 1993). أكثر من ذلك، كانت النصوص الكلاسيكية التي استخدمها غروتوفسكي قد استخدمت بشكل متعارض، “لتتناسب مع طبيعته” وكانت تتحور ـ كما حدد فلازن ـ في الفصل الخاص بالمسرحيات نفسها، حتى تصبح التجربة وكأن المرء ينظر الى ذاته في مرآة، أو الى أفكارنا وتقاليدنا، وليس فقط وصف ما كان يشعر به ويفكر فيه الناس في العصور الماضية”. ونتيجة لهذه العناصر الثلاثة كان لعمل غروتوفسكي المسرحي، دون شك، أسلوب مميز له، أسلوب كان هو وظيفة شخصيات أفراد الفرقة، وهو أسلوب خاص بغروتوفسكي أكثر من كونه “اكتشافاً واستخداماً لقوانين المسرح”، وعلى الرغم من تأكيد غروتوفسكي خلال “نحو مسرح فقير” ان الممارسة تكشف عن النظرية، وأن إلقاء الضوء على قوانين المسرح والأفكار والتقاليد يتم استيعابها مباشرة من خلال تعبير الجسد، فانه بذلك ينكر ويلغى ويرفض التفكير في المحتويات الايديولوجية للتقنيات العملية التي وظفها في عمله.
 
جمهور
 
يفترض كتاب “نحو مسرح فقير” وجود جمهور متجانس يشاهد عمل غروتوفسكي، جمهور من المشاركين الذين جاءوا الى المسرح وهم يحملون توجها صحيحاً نحوه. كما يتوقع من الممثل ان يكون لديه التوجه الصحيح. والذي سيكون قادرا على ادراك الأساطير الجمعية، وسوف يكون معدا لتقديم عمل يتسم بالتحليل النفسي، والذي يمكن اثارته في كل الممثلين عن طريق عروض مسرحية ذات أعداد محدودة من الممثلين، يشتمل الكتاب على رسوم مثالية لتكوين الممثل والجمهور تردد تطلعات نظرية غروتوفسكي وأصداءها. تستخدم بعض الرسوم اسهما بين جماعات الجمهور مشيرة بذلك الى علاقتهم” بعضهم ببعض، وتصف عدم اختلاط الممثل والمشاهد، تظهر كلتا الفكرتين كيف صممت التجربة المسرحية لتكون تجربة ذات حضور للجمهور بقدر كونها كذلك للممثل. فليس هناك مجال للوهم هنا. احتوى الكتاب ايضا على افراد الجمهور الفعلي في صور العروض الفوتوغرافية المسرحية، والتي تعرض اوضاعها، وردود الافعال المتعددة عليها وتبادلها لمجموعة اكثر تعقيدا مما تسمح به لغة غروتوفسكي، يتضح تأثير حاجة الممثلين الى هدف محدد وكذلك دعم سلبية المشاهدين. يؤثر حضور الجمهور بشكل اساسي في الاخراج. قدم غروتوفسكي في كتاب “العهد الجديد للمسرح” (1964)، اساليب “للقضاء على المسافة بين الممثل والجمهور”، على المستويين المادي والفلسفي، وذلك من خلال التقارب. ومع ذلك، لا يقلل التقارب الجسدي دائماً من الفجوة بين الممثل والمشاهد. وبحلول عام 1967، كان غروتوفسكي قد طور اشكالا متنوعة من مجموعات متألقة من الممثلين والجمهور، وكان الجمهور يقوم بأدوار عديدة. ان فكرة اعطاء الجمهور شخصيات كمرضى عقليين بالنسبة الى كورديان على سبيل المثال، ثم رفضها بالتدريج حيث كانت تتطلب استخدام اقنعة، في اللحظة نفسها التي يحاول فيها الممثلون خلع الاقنعة عن انفسهم، ويظهرون كشفا للذات مثيرا التعاطف افراد الجمهور. ان ما يربط بين افراد الجمهور هو دورهم كمشاهدين كشهود كما حدد” غروتوفسكي ـ مصحوبا بتوجه الممثل نحوهم. فكل ممثل يطور حالة تنافسية من التحدي، او “نوعاً من الاثارة” “في مواجهة مع المشاهد” ولم يكن ذلك يتحقق قط “بالنسبة” الى المشاهد، ومع النص الأخير في المجلد “المواجهة الاميركية” في كانون الاول ديسمبر 1967، يدافع غروتوفسكي عن تطور الممثل كمشاهد داخلي، “شريك مقدس (203 TPT يظهر هذا الالغاء للجمهور لمصلحة مشاركة تجارب ما وراء المسرح.
 
كتابات وتنظير ما بعد العرض
 
اخذ التوثيق الخاص بغروتوفسكي عن التطورات الأخيرة لعمله تقريبا دون استثناء من احاديث ولقاءات نقحت فيما بعد قبل ان تنشر. كان امتناعه عن تقديم مادة مكتوبة يمكن اعتباره شيئاً محدداً عن مذهبه، كان ذا مغزى في ضوء اعترافه بسيادة الجسد كمخزن للذاكرة والمعرفة. استمرت “الدراما رفيو” في نشر ما تكتشفه عنه عندما يختار ان يوضح عناصر بعينها عن عمله. ويشتمل “مصادر غروتوفسكي” على بعض النصوص التي تساعد على فهم عمله والتي لا تتعدى كونها مقتطفات هزيلة او اشياء مجمعة من كل مرحلة من مراحل عمله، الا ان الأغلبية العظمى من المقالات كانت تعليقات من المشاركين. وبينما تمتد المرحلة الأخيرة من عمل غروتوفسكي لتحتوي مشاركين اكثر وأكثر، وكان كثير منهم من دول اخرى، كان من خلال تسجيلهم لتجاربهم معه ان تم الاعلان عن افكاره وتجريبه. وكما اشارت ليزا ولفورد في مقدمتها سمصادر غروتوفسكي” فان اولئك كانوا مشاركين لفترات قصيرة او مشاركين من الخارج، وكان فهمهم لمبادئ الدراسات محدوداً بالضرورة! لذلك غالبا ما يواجه القارئ لكتاباته الخاصة بهذه الفترة بمقتطفات متفرقة هزيلة محيرة، تقدم كمحاضرات او تعليمات شفهية.
 
وجدت اولى دلالات على ان بحث غروتوفسكي كان يقوده خارج حدود المسرح التقليدي في كتاب “نحو مسرح فقير”، وكان تقرير كوميجا عن عمل ما وراء المسرح Paratheater مساعداً جدا على جمع خيوط عن عمل غروتوفسكي المسرحي، فقد بلور افكارا عديدة على مدار يومين في مؤتمرات عقدت في نيويورك 12/13 ديسمبر 1970، بعنوان “الاجازة” وهو السجل المكتوب لجلسات المقابلات هذه، ولم يظهر في “دراما رفيو” حتى عام 1973 “مصادر غروتوفسكي” هو نسخة منقحة من الكتاب حيث اضيفت مقتطفات من محاضرة روكلو في كانون الأول (أكتوبر) 1971، ومحاضرة في فرنسا في اكتوبر 1972 لم يتضمن الكتاب القضايا التي اثارت ردود الافعال هذه من جانب غروتوفسكي، عند تركه سياسة التحرير لـ “نحو مسرح فقير” ولكي يزيد من الاحباط الذي يصاب به القارئ عند محاولة القراءة ككيان منطقي يقلل من ردود الافعال على الأسئلة التي يعجز القارئ عن العثور على اجابات عنها، يترك القارئ ايضا وهو يحاول ان يخمن ما هو السؤال. وبالتبادل، يمكننا قراءة هذا كديناميكية لقاعة المؤتمرات، حيث كانت الأسئلة سابقة على النصوص فقط، في عملية تواصل ذات اتجاهين بشكل واضح، ولمونولوج تتخلله وقفات. يشير بعض من اللغة المجازية المتبادل الى مضمون الحرب الباردة عام 1970، حيث خفف المتسائل من دور الممثل، الا ان غروتوفسكي تبعه من خلال عدة استجابات وردود، مثل الخوف الذي يضعف صاحبه، والعالم كمكان اقل بقاء، والحاجة الى نبذ القوة. بدأ غروتوفسكي باعلانه موت المسرح، على الأقل بالنسبة اليه، وأظهر معاداة للمسرح على مستويين: أولهما انه “غير أمين” و”عقيم” وأنه على الممثل ان “يتظاهر”، مرددا اصداء نقد شهير معاد لتقليد المسرح ذاته. وثانيهما ان المسرح يجبر الممثل على ان يضع نفسه في “موقف زائف”، وأن “يدفع نفسه الى دائرة الضوء”، ومع ذلك، امتنع غروتوفسكي والمتشككون عن ترك مناقشة المسرح، والاشارات المسرحية والتقنيات والمادة الابداعية.
 
———————————————————————————————————————-
المصدر : مجلة الفنون المسرحية – كتاب “نظريات حديثة في الأداء المسرحي، من “ستنسلافسكي الى بوال” تأليف جان ميلنج وجرهام لي وترجمة إيمان حجازي

شاهد أيضاً

المسرح متعدد الثقافات، أم مسرح المهجر … مادة بحثية حـسن خـيون

المسرح متعدد الثقافات، أم مسرح المهجر … مادة بحثية  حـسن خـيون  المقدمة  في قراءة للتاريخ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *