«فرضاً إنو» تنقل عبث العالم بروح لبنانية

بعد مسرحيّتيه «كعب عالي» و«فينوس»، يقدّم جاك مارون مسرحيّة جديدة بعنوان «فرضًا إنّو»، بطولة الممثّلين العريقين غبريال يمّين وطلال الجردي. مسرحية مختلفة عمّا اعتاده المسرح اللبنانيّ منذ فترة، اقتبسها غبريال يمّين عن عمل للأميركيّ آلن آركن بعنوان «الواقع الافتراضيّ»، وهي من روائع المسرح الأميركيّ المعاصر. وكان الممثّل والكوميديّ آركن قد وضع، بالاشتراك مع إيلاين ماي ثلاث مسرحيّات تتألّف كلّ منها من فصل واحد وتجتمع ثلاثتها تحت عنوان «مسرحيّات السلطة» (Power Plays)، وقد عُرضت مرّات متكرّرة ابتداءً من العام 2005 وشكّلت ركنًا أساسيًّا من أركان مشهد الكوميديا السوداء المعاصرة.

وليس عنوان «مسرحيّات السلطة» عنوانًا اعتباطيًّا، وإنما اختاره الأميركيّ آركن لأنّ حبكة كلّ من المسرحيّات الثلاث تتمحور أساساً حول السلطة والقدرة على الإمساك بزمام الأمور. إنها لعبة واقعيّة يوميّة يتعرّض لها كلّ إنسان في كلّ موقف: لعبة السلطة والرغبة في السيطرة والغريزة الإنسانيّة التي يمارسها العقل البشريّ في شكل أوتوماتيكيّ لنيل مآربه.

تحولّت «الواقع الافتراضي»، ثاني مسرحيّات الثلاثيّة، إلى «فرضًا إنّو» مع يمين، وهي تضع على الخشبة رجلين لا يعرف أحدهما الآخر، وتدور بينهما لعبة مُتخيّلة يحاول فيها كلّ منهما السيطرة على الآخر. مشادّة غريبة، متخيّلة، لا معقولة، مفترضة، تذكّر برائعة بيكيت «بانتظار غودو» وبمسرحيّات يونيسكو الخارجة عن المألوف والمتوقّع. وها هو «راضي» (طلال الجردي) يحاول أن ينتفض ويثور ويضرب عرض الحائط أوامر مديره (غبريال يمّين). وقد تمكّن يمّين من اختيار اسم شخصيّته بحنكة. فبينما بالإنكليزيّة يدلّ اسما الشخصيّتين على التناقض والتضاد بين الشاب المُسمّى اليسار (lefty) والشاب المدعوّ اليمين (derecha)، اختار يمّين أن يُسمّي شخصيّة العامل «راضي»، على

رغم أنه ليس راضيًا ابداً، ولا يفهم ما يدور حوله ولا يكفّ عن الاعتراض والتساؤل.

تنطلق لعبة العبثيّة من اسم المسرحيّة واسم شخصيّتها، إلى الحبكة في ذاتها. الوضع الأوّل والوضع النهائيّ غريبان وغير منطقيّان: عاملان، رئيس ومرؤوس، يعملان على إفراغ بضائع من شحنة ويتأكّدان من أنّ محتوى الصناديق يطابق ما كُتِب في «المانيفستا». إنّما تكمن المشكلة في أنّ البضائع والشحنة والمانيفستا مُفترضة وغير موجودة. تكمن قمّة العبثيّة في أنّ البضائع افتراضيّة والشحنة افتراضيّة والمانيفستا افتراضيّة. فلا الشحنة وصلت، ولا البضائع أو العدّة موجودة، ولا المانيفستا مطبوعة. كلّ شيء غير موجود.

الشخصيّتان تنتظران وصول البضائع وفي الوقت نفسه تجريان جردة على الأدوات والعدّة. بينما ينتظران، لمَ لا يبدآن بعدّها والتأكّد منها بدلاً من إضاعة الوقت؟ موقف عبثيّ بامتياز.

وأماكن هذه المسرحيّة وديكورها وأداواتها وحبكتها وأحداثها افتراضيّة، عبثيّة، وغير موجودة؛ وعلى ذلك، تشكّل موضع خلاف واقتتال بين الشخصيّتين. كلّ شيء في هذا المشهد المسرحيّ الذي يستمرّ حوالى الساعة غير منطقيّ. الحوار نفسه مضحك وعبثيّ وغريب. ونجح يمّين باقتباسه محافظًا على نكهة العبث والغريب في الحبكة والنبرة والتمثيل.

وبعيداً من الكوميديا التي قد يراها بعضهم سهلة أو بسيطة، وبغضّ النظر عن النصّ الذي قد يستغرب المتفرّج اللبنانيّ عبثيّته، تمكّن الممثّلان من تقديم آداء رائع يستحقّ التقدير. يمّين والجردي تمكّنا مرّة جديدة من إثبات براعتهما، عدا عن النصّ الجميل الذي يُعيدنا إلى قصّة إستراغون وفلاديمير اللذين يتشاحنان ويتقاتلان ولكنّهما لا يستطيعان الذهاب إلى أيّ مكان لأنّهما ينتظران غودو. وفي حالة يمّين والجردي يتشاحن البطلان ويقتتلان ويحصيان بضائع لم تصل بعد ولا أحد يعرف ماهيّتها أو طبيعتها. لقد قدّم يمّين إلى الجمهور اللبنانيّ عملاً يذكّر بمسرح المنتصف الثاني من القرن العشرين، قدّم عملاً مسرحيًّا ينتمي إلى فنّ الغريب واللا مألوف والعبث اشتاقت إلى مثله خشبات المسرح اللبنانيّ.

المصدر/ الحياة

محمد سامي / مجلة الخشبة

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *