(عين) وجدي معوّض يقرأ المسرح الإغريقي بعيون معاصرة

“دموع أوديب” و”التهاب فعل حَيِيَ” و”الكلبة” هي عناوين النصوص التي صدرت حديثا عن دار “أكت سود” الباريسية للكاتب والمخرج المسرحي اللبناني وجدي معوّض، وتشكّل خاتمة قراءته المعاصرة للمسرح الإغريقي.

ولفهم هذه النصوص وموقعها في مسيرة معوّض المسرحية، لا بد من عودة إلى الوراء، وتحديدا إلى مرحلة ما بعد رباعية “دم الوعود” الشهيرة، حيث انطلق الكاتب في مغامرة طموحة تهدف إلى فتح فضاء مساءلة ومواجهة مع كاتب مسرحي آخر.

ويعود اختياره الكاتب الإغريقي سوفوكليس إلى الأثر الذي خلّفته فيه تراجيديات هذا العملاق السبع لدى اكتشافه إياها، وبالتالي إلى اعتباره هذا الأخير كاتبا كلاسيكيا ومعاصرا في آن واحد.

وبينما ارتكز في مقاربته للتراجيديات الأربع الأولى من مسرح سوفوكليس على ترجمة الشاعر الفرنسي روبير دافرو لها، بإيعازٍ منه، دفعته وفاة هذا الشاعر المفاجئة عام 2013 إلى إعادة كتابة التراجيديات الثلاث الأخيرة كليًّا.

بعبارة أخرى، استعان معوّض بشخصيتي أوديب وفيلوكتيت في “دموع أوديب” و”التهاب فعل حَيِيَ” لينسج في كل مرة حبكة جديدة ينير فيها قدر كل من هاتين الشخصيتين موضوعًا راهنًا.

ففي نص “دموع أوديب” الذي تقع أحداثه في أثينا اليوم، نشاهد وصول أوديب برفقة أنتيغون إلى أنقاض مسرح قديم عند مدخل المدينة حيث من المفترض أن تنتهي، عند حلول الفجر، رحلة مآسيه، وفقًا لكاهنة الأسطورة.

“بينما ارتكز وجدي معوض في مقاربته للتراجيديات الأربع الأولى من مسرح سوفوكليس على ترجمة الشاعر الفرنسي روبير دافرو لها، بإيعازٍ منه، دفعته وفاة هذا الشاعر المفاجئة عام 2013 إلى إعادة كتابة التراجيديات الثلاث الأخيرة كليًّا”

قصة ملك
لكن في الوقت نفسه يصل منشدٌ إغريقي إلى المكان حاملاً أخبار أثينا التي تبكي الفتى أندرياس غريغوروبولوس بعدما أصابه شرطي برصاصة في قلبه.

وحين يتعرّف المنشد فورًا إلى أوديب ويقرّ بمعرفة قصته التي تتكرر على مر الزمن، “قصة ملك كان يملك كل شيء قبل أن يتّضح له أنه قتل أباه وتزوّج من أمه وأصبح أخًا لأولاده”، تنتفض أنتيغون رافضة أن تُلخَّص حياة إنسان على الأرض بجملة واحدة، فتقترح سرد قصة والدها كاملةً عليه كي ينقلها إلى أندرياس قبل وفاته، آملةً بذلك سدّ حرمان هذا الأخير من معنى الأبوة والشيخوخة اللتين لن يعرفهما.

لكن أندرياس سيموت قبل الاطلاع على القصة، ويعترف المنشد بأن أبناء أثينا اليوم فشلوا في مواجهتهم مع الوحش (أبو الهول)، بخلاف أوديب، فيطمئنه الأخير بأن الوحش الذي هزمه هو نفسه الذي يضطهدهم اليوم، وبالتالي الجواب على أحجيته، وعلى جميع أشكال الرعب، يبقى هو نفسه أيضا، أي الإنسان.

ويختم معوّض نصه بقول أوديب للمنشد: “قل لأبناء أثينا بأنه من العدل التمرد ضد الجور، صاحب العين الواحدة، خصوصا حين يحضر بثياب العدالة والقوانين والمال والسلطة. فليُسمِعوا هدير أصواتهم، وليضمّوها إلى صراخ نظرائهم، الآخرين، الغرباء، المنفيين الذين يفرّون من أرضهم للعثور هنا على خلاص”.

من جهته، يشكّل “التهاب فعل حَيِيَ” نصًا غريبًا وقاتمًا يشكّل تأويلاً لمكامن اهتمام معوّض بأعمال سوفوكليس أكثر منه ترجمةً معاصرة لمسرحية “فيلوكتيت”. إذ يمنح الكاتب اللبناني دور الشخصية الرئيسية لنفسه من منطلق شعوره بالعزلة بعد وفاة صديقه الشاعر دافرو، تماما مثل فيلوكتيت في نص الكاتب الإغريقي، حيث يتخلّى عوليس ومرافقوه عنه ويتركوه في جزيرة ليمنوس بعد تعرّضه لعقصة حية مميتة.

هكذا نرى معوّض يذهب للبحث عن فيلوكتيت في المكان الذي شهد ولادته، أي اليونان، فيصبح تارةً دانتي في الجحيم، وتارةً عوليس، وتارةً فيلوكتيت نفسه، وذلك بغية العثور مجددًا على موضوع لنصه المسرحي، وأيضا على الرغبة في الكتابة والحياة.

وفي النهاية، وحده الموت الاستيهامي يمكّنه من لقاء أولئك الشعراء والآلهة والأبطال الذين يُضحّى بهم اليوم في بلداننا المأزومة من أجل قضايا مشبوهة، ومن العودة إلى طريق الحياة والإبداع.

حب وانتقام
أما نص “الكلبة” فاستوحاه معوّض من كاتب إغريقي آخر هو أوريبيد، وتحديدًا من أسطورة فيدر (Phèdre)  كما نقرؤها في نص “هيبوليت”.

“استوحى المسرحي وجدي معوض نص “الكلبة” من كاتب إغريقي آخر هو أوريبيد، وتحديدًا من أسطورة فيدر (Phèdre) كما نقرؤها في نص “هيبوليت””

في هذا النص، فيدر هي زوجة تيزيه، ملك أثينا، التي توقعها الإلهة أفروديت في حب ابن تيزيه من زواجٍ سابق، الشاب هيبوليت، للانتقام من هذا الأخير الذي يعيش عذريته كدعوة ويعتبر شعور الحب مستحيلاً بعدما قتل والده أمه. لكن بينما توقع فيدر هيبوليت معها لحظة سقوطها، من أجل إنقاذ شرفها، وفقًا لأوريبيد، يمنح معوّض لقدرها وجهة أخرى.

فبما أنها حفيدة أوروبا الفينيقية، ينقل أحداث مأساتها إلى مكانٍ ما في منطقتنا حيث أبيدت عائلتها أيضا على يد تيزيه، وتتقدّم هي للزواج منه أثناء المجزرة كي لا تنسى أبدًا ما جرى لعائلتها.

وبينما تتحرر فيدر من آلامها بواسطة الانتحار في نهاية نص أوريبيد، يجعل معوّض منها استعارة للمرأة الشرقية، وللشرق عموما، فيُقفل في وجهها جميع أبواب الفرار من قدرها وتضطر إلى عيش غضبها وعذابها من كونها ضحية ماضيها المؤلم وحاضرها المستحيل.

أنطوان جوكي

http://www.aljazeera.net/

 

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *