(عين) من تجارب النقد المسرحي في العراق: حسب الله يحيى والمنهج الوصفي الصحافي – العراق

لم يظهر النقد المسرحي في العراق متأخراً، بل هو واكب ظهور أول العروض المسرحية، كما تخبرنا قصاصات التأسيس عند غير رائد مسرحي. ولأنه كذلك، فلقد استقطب كتّاباً كثـر، كان أغلبهم قد دخل المسرح من بوابة الأدب والصحافة. ومن اللافت أن النقد المسرحي عندنا ظل يستقطب القادمين من الأدب والصحافة إلى اليوم.

والقاص، الناقد حسب الله يحيى هو أحد هؤلاء. كتب في النقد المسرحي خلال العقود الأربعة الأخيرة وبشكل مستمر. وكانت مقالاته تظهر باستمرار في الصحف العراقية فتثير الزوابع وراءها، والسبب يكمن في لغتها، كما سنأتي عليه، ولكن مشروعه القصصي لم يأخذ الاهتمام النقدي الذي يليق به بالرغم من أنه قدم للمكتبة العراقية عدداً مميزاً من مجاميع القص.
علينا القول منذ البداية أن هؤلاء النقاد، ومنهم يحيى، لم يقتربوا كثيراً من التنظير المسرحي، وظلت كتاباتهم، على الأعم الأغلب، تدور في فلك متابعة العروض المسرحية. يمكن ملاحظة أن عدد تلك النقود، وأصحابها، يتزايدون كلما كان الموسم المسرحي غنياً، وتقلّ تلك الكتابات، ويختفي كتابها، كلما كان الموسم فقيراً. ان أقرب تمثيل لهذه الملاحظة يكمن في سنوات ما بعد 2003 عندما شحّ العرض المسرحي فانكفأ كتاب كثر عرفوا بحضورهم على صفحات الجرائد العراقية، على العكس من سنوات الثمانينات، مثلاً، التي استقطبت العشرات من الأسماء.
في هذا الصدد أتذكر محاولة تأسيس رابطة نقاد المسرح في العراق أوائل تسعينات القرن الماضي. كان المشروع قد ولد بدعم من نقابة المسرحيين العراقيين التي رأسها الفنان فاضل خليل. ولقد شكلنا لجنة تحضيرية ضمت على ما أذكر الأصدقاء النقاد: علي حسين وحسين الأنصاري وقاسم مطرود وعواطف نعيم، مهمتها الدعوة لمؤتمر تأسيسي للرابطة. كان النقاد عواد علي ومعد فياض ونازك الأعرجي وكريم رشيد قد دعوا قبل هذا التاريخ لتأسيس الرابطة، ولكن مساعيهم لم تر النور لأسباب شتى. ما اريد أن أصل إليه أن اللجنة التحضيرية استطاعت حصر أكثر من 50 اسماً من الذين يكتبون النقد المسرحي ويواظبون على نشر مقالاتهم في الصحافة العراقية. ومن المؤكد أن هذا العدد الكبير من الأسماء يشير إلى ظاهرة انتعاش المشهد النقدي مثلما يشير إلى انتعاش الظاهرة المسرحية بوجه عام. والسؤال، في هذا الاستطراد، من الذي بقي من هؤلاء؟
لقد تميزت تجربة الناقد حسب الله يحيى بحضورها الفعال في المشهد المسرحي العراقي. كانت مقالاته نارية في هذا الحضور، والسبب يعود للغتها، كما اسلفت، تلك اللغة المباشرة والصادمة، والتي تسمّي الأشياء بمسمّياتها بلا خوف أو مجاملة.
لقد تجاوز يحيى مشكلة المجاملة التي وقع فيها عدد كبير من نقادنا، مثلما تجاوز مشكلة الإغراق في المصطلح المسرحي أو النقدي، مفضلاً عوضاً عن ذاك استخدام لغة وصفية صحافية.
والنقد الوصفي، والصحافي، ليس غريباً عن مشهد النقد المسرحي في العراق، بل يمكن القول أنه من أقدم مناهجنا النقدية، إلا أن محاولات تأصيله ظلت نادرة، إذا ما استثنيا بالطبع ما تخزنه رفوف أكاديمية الفنون من رسائل ماجستير تناقش هذه النقطة.
الأسلوب الصدامي الذي انتهجه يحيى قذفه في أتون معارك مع صنّاع العرض المسرحي. هؤلاء يكرهون النقد قبلاً، يعتقدون أن مهمة الناقد هي تجميل نتاجاتهم بل وشخصياتهم، وما كان يحيى ليفعل ذلك. لقد أصبح حضور هذا الناقد لعرض مسرحي بمثابة جرس انذار لصنّاعه. انهم يتوقعون سلفاً مقالة نارية ضد عرضهم. هل يمكن القول، هنا، أن هذه الملاحظة أسهمت في صناعة صورة معينة للناقد المسرحي؟
ان المتابعة المستمرة لما تقدمه مسارح العاصمة من عروض، ايام كانت المسارح مضاءة على طول العام ومليئة بالتجارب، هو أمر من صلب أعمال الناقد، ولكن الكتابة عن تلك العروض يظل أمراً نادراً بالنسبة لكثيرين وذلك لأسباب شتى لعل أهمها تجنب الدخول في معارك أو مشاحنات مع صنّاع العرض الذين يريدون نقوداً على مقاساتهم.
دخلت إلى المعترك النقدي في تلك الفترة، ولقد كنت من الذين يتقاطعون مع النقد الوصفي والصحافي، كنت أميل إلى المناهج الحديثة، ولهذا لم أكن متحمّساً كثيراً لما يكتبه يحيى وأضرابه من النقاد، ولكن وقفته الجادة والصلبة بوجه ظاهرة المسرح الاستهلاكي كانت وما زالت تستدعي مني الاحترام. لقد ظل مواظباً على حضور المسرحيات الاستهلاكية والكتابة عنها محذراً من مخاطرها على الظاهرة المسرحية، وهو الأمر الذي بدأنا نتحسّسه هذه الأيام عندما خلى المشهد المسرحي إلا من ظاهرة المسرحية الاستهلاكية.
كانت الشجاعة والتحدي سلاح حسب الله يحيى. ومن المؤكد أن شخصية بميول يسارية لقادرة بالفعل على الثبات في مواجهة شلالات القذف والشتم الشفاهية التي كان يتعرض لها، ناهيك عن المقالات التي ينشرها المتضررون من نقوده، وهي مقالات لم تكن بأقل عدائية من المقولات الشفاهية.
يحفل المقال الذي يكتبه يحيى بالعبارات الصريحة والواضحة. وهي عبارات تنأى بنفسها عن مهمة المحلل النقدي، وتقترب من مهمة التربوي والأخلاقي. تحتفي من مقالاته النقدية لغة التشريح، وتحل معها لغة الوصف. كما تكثر أحكام القيمة في تلك المقالات، انه يكتب مقاله منطلقاً من ضميره الأخلاقي لا انطلاقاً من مرجعيات علمية في دراسة العرض المسرحي. كثيراً ما اشعر وانا أقرأ مقالات الأستاذ يحيى بأني أمام معلم تربوي عتيد يريد أن يأخذني إلى الطريق الصواب. فهل استطاعت هذه الطريقة أن تمثل منهجاً؟
قلت أن منهجه هو المنهج الوصفي الصحافي، ويمكن القول أن الدكتور علي جواد الطاهر كان رائد هذا المنهج عراقياً، ولكنه، أي المنهج، ظل متاحاً أمام الصحافيين والأدباء فقط، ولم يقترب منه دارسو المسرح الأكاديميين، هؤلاء فضلوا المناهج العلمية الحديثة، تلك التي تتقصد الدخول في اشتباك من نوع آخر مع العروض المسرحية، اشتباك له لغته وأنساقه وآلياته، دون أن يعني ذلك تفضيل منهج على آخر.
ان القيمة الأبرز لما أنجزه مشروع الأستاذ حسب الله يحيى النقدي في تقديري، يكمن في: اسهامته الواضحة بأرشفة العروض المسرحية العراقية عبر عقود طويلة من الكتابة، فلولا مقالاته لما استطعنا الوصول إلى العشرات من تلك العروض، هذا أولاً، وثانياً في انحيازه للعروض التي تحتفي بالانسان العراقي ومعاناته عبر اطار جمالي مختلف، وهي ميزة جمالية وأخلاقية في نقوده المسرحية، وأخيراً فلقد قدم الأستاذ يحيى عبر تاريخه الطويل تصوراً مفيداً لتطور الظاهرة المسرحية في العراق من خلال تواصله مع مختلف الأجيال المسرحية.
اشارة منهجية: لا أرغب في الدخول بمناقشة بحثية حول المصطلح، وخاصة مصطلح العنوان، بسبب طبيعة المنبر الذي أكتب فيه، على أن المنهج الوصفي التحليلي يعد من أقدم المناهج العلمية، ولقد أضفنا إليه مصطلح “الصحافي” لكي نميزه عن الوصفي التحليلي، ولكي نحاول الإشارة إلى أهمية هذا المنهج في نقد الفنون بشكل عام.

 

المصدر : مجلة الفنون المسرحية – عبد الخالق كيطان 

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *