عين على المسرح العربي – المسرح في لبنان…السكافي حافي والنجّار بلا باب دار

يأتي وضع المسرح اللبناني اليوم ليثبت بدوره حالة الانفصام التي يعاني منها لبنان المؤسسات ما بين حاضره وماضيه، ولا يختلف اثنان على ان لبنان يعيش أزمة مع هويته، طالت انعكاساتها كل عناصر الفن والحضارة، بما فيها المسرح. فهذا البلد الصغير الذي طالما ارتبط اسمه بالفن والثقافة وضرب بإبداعاته أقاصي الشرق والغرب لم يعرف يوماً سياسة ثقافية داعمة لا في مراحل نهضته الذهبية ولا حتى في مراحل موته السريري، بل اعتمد وما زال على المبادرات الفردية المؤمنة بلبنان الثقافة والفن… ويكفي الدولة اللبنانية عاراً ان يكون الفن المسرحي انطلق الى الشرق الاوسط من خشبة لبنانية منذ 150 سنة. ولفتة فنية صغيرة لما حولنا تُرينا أن كل الدول العربية، التي اهتدت الى المسرح عبر تجربة مارون النقاش 1817-1855، من اكبرها الى اصغرها، ومن اغناها الى افقرها اصبح لديها مسارح وطنية إلا لبنان، البلد الذي يعبّر المثل الشعبي القائل “السكافي حافي والنجار بلا باب دار” عن حاله أصدق تعبير، إذا ما لجأنا للكوميديا السوداء في تعليل واقعنا الذي أطلنا البكاء ضحكاً من شرّ بليّته.

يعيش المسرح اللبناني حالاً من الركود اسوةً بغيره من العناصر الفنية التي ادخلتها الازمات السياسة والاقتصادية والامنية المتعاقبة في نفق التقهقر القسري الذي يرفض الموت، متكئاً على عمليات الانعاش الفردية التي ما برح اهل الفن يقومون بها على مدار السنوات الماضية. فكيف يمكن ان نقيّم وضع المسرح اللبناني اليوم، ما هي التحديات التي تواجه تطويره، وماذا فعل اهل بيته بهدف ايقاظ ضمائر المعنيين على ارثٍ فني كان يمكن تلافي تقهقره عبر سياسة ثقافية لا تكلف وزارات الثقافة المتعاقبة اكثر من شحطة قلم، وارادة فعلية لدعم الثقافة التي انشئت وزارتهم على اسمها.

مرحلة “ركود”
وللوقوف على هذه التفاصيل كان لـ”البلد” حديث مع استاذ التمثيل والاخراج في الجامعة اللبنانية هشام زين الدين، والذي يرفض تسمية المرحلة التي يمرّ بها المسرح اليوم بمرحلة الانحطاط، او مرحلة ما قبل الموت لأن “المسرح سيبقى موجودًا طالما ن الانسان موجود” ويصرّ على تسميتها بمرحلة “الركود”. إذ ان تلك النهضة التي شهدها المسرح في ستينات القرن الماضي لم تكن نهضة مسرحية وحسب بل كانت نهضة شاملة اقتصادية سياحية وأمنية، والظروف تلك انعكست على المسرح حينها، فـ”ليست النهضة متعلقة بالمسرح والمسرحيين وحدهم بل جاءت في خضمّ انتعاشٍ عام للحياة الثقافية في لبنان” اما اليوم فكل شيء في تراجع ما انعكس على المسرح بشكل واضح فـ”المسرح يتغيّر مع تغير الظروف”.

لا سياسات ثقافية
ويؤكد زين الدين بأن المرحلة التي يعيشها المسرح اليوم ما هي الا امتداد للمراحل السابقة وشبيهة بها، ولكن مع اختلاف الاحداث الموضوعية التي كانت تحكم كل فترة من الفترات فـ”مسرح الحرب غير مسرح ما قبل الحرب أو ما بعدها” ولكن المشاكل الاساسية التي كان يعاني منها المسرح ما زالت هي نفسها، وتتلخص “بأن المسرح اللبناني قائم منذ تأسيسه على المبادرة الفردية أي على اشخاص وليس على مؤسسات، وهذا ما يناقض كل تجارب المسرح العالمي والعربي حتى” اذ ان المسرح ينتعش عندما تقوم الدولة بدعمه لان الثقافة بحاجة دائمًا الى دعم من المؤسسات لتستمر بالانتعاش في ظل الانحطاط الثقافي الذي تعيشه مجتمعاتنا، ما يجعل من تطور المسرح أمرا صعباً في ظل عدم وجود سياسات ثقافية للدولة لدعم وجود المسرح وغيره من الفنون. “الامر الذي يمكن اعتباره السبب الرئيسي الذي يجعل المسرح اللبناني يتأرجح بين الانتعاش والهبوط ويحرمه من وجود سياق تطور واضح مثل باقي دول العالم”. ولا ينفي ان الركود الحالي للمسرح كان من الممكن تلافيه من خلال سياسة ثقافية لوزارة الثقافة، التي انشئت منذ عقدين من الزمن لهذا الهدف.

تجربة نضالية
وكان لزين الدين تجربته النضالية بهدف انعاش المسرح اللبناني عبر مشروع إنشاء مسرح وطني في لبنان، وهو مشروع اعتمد على انشاء عريضة مطلبية “وقّع عليها الف مثقف ومسرحي وكاتب وصحافي لبناني” ذهب زين الدين بها الى وزير الثقافة آنذاك سليم وردة في العام 2011، وهو المشروع “الكامل المتكامل” الذي لم يجد آذاناً صاغية لدى المعنيين حتى الآن، علما انه شمل تذليلا لكل العقبات التي يمكن ان يتذرّع بها المعنيون، من اقتراح تحديد المكان ومصادر التمويل والادارة. ويقترح المشروع “انشاء مسرح وطني الى جانب قصر الاونيسكو في ملعبٍ رياضي لا يستخدم لشيء ويصلح ان يكون ارضية لمسرح وطني” وفي حال عدم توفر الاموال للمشروع في الوزارة، اقترح زين الدين في مشروعه على الوزارة ان يتم تشكيل لجنة من المسرحيين انفسهم تأخذ على عاتقها تأمين مصادر التمويل من السفارات او الاتحاد الاوروبي او غيرهما، على ان تتسلم ادارة قصر الاونيسكو نفسها ادارة هذا المسرح كما تدير مسارح وقاعات الاستعراض في القصر.

عارٌ مضاعف
ويعوّل زين الدين على ان تمشي الوزارة الحالية بهذا المشروع الذي يحل ازمة المكان المسرحي في لبنان، و”هي ازمة تمنع الابداع المسرحي وتمنعنا من انتاج مسرحيات” الامر الذي يمكن ان يكون حلًا اساسيًا لتطوير المسرح “لان المكان اكبر مشكلة يعاني منها المبدع المسرحي اليوم” كون لا امكانية للمسرحيين لدفع بدل استئجار مسارح تتراوح كلفتها لليلة الواحدة ما يقارب الـ 800 دولار. اضافة الى ان أقبال الجمهور يمكن ان يتزايد في حال وجد المكان، كون سعر بطاقة المسرح اليوم يشكل حاجزًا امام حضور الجمهور الى المسرح بكميات كبيرة، ولكن عندما يكون المسرح مجانيًا فسيكون سعر البطاقة رمزيًا ما يساهم بزيادة الاقبال وبالتالي التطور والحراك المسرحي في كل البلد. ويرى زين الدين ان عدم وجود مسرح وطني في لبنان المعروف بالحضارة والفن والثقافة يعتبر عاراً على الثقافة وعلى الدولة اللبنانية بينما كل الدول العربية لديها مسارح وطنية. ويتضاعف هذا العار عندما نعرف ان المسرح العربي كله انطلق من لبنان منذ 150 سنة من مسرح الجميزة مع تجربة مارون النقاش، الذي جاء بالمسرح من اوروبا ومن ثم انطلق المسرح من لبنان الى مصر وبقية الدول العربية.

“مش بالبال”
وللاستفسار عن مصير هذا المشروع كان لا بد من طرق باب وزارة الثقافة الحالية هاتفياً، ليؤكّد وزير الثقافة ريمون عريجي لـ”البلد” أنه ليس على علمٍ بمشروع من هذا النوع، متسلّحاً بمتابعة الوزارة مشروع المركز الثقافي اللبناني العماني الذي يحوي ثلاثة مراكز مسرحية عامة، وهو المشروع العالق منذ سنوات بسبب اشكالات مع اصحاب الارض التي ستبنى عليها المسارح. وبوجود مسرح وطني مجاني في اليونسكو. وغاب عن ذهن عريجي، إما سهواً وإما لعدم معرفة، بأن هذا المسرح لا يصلح للعروض الدرامية، تماما كالمسارح المنوي انشاؤها عبر مشروع المركز الثقافي اللبناني العماني، وأنها تصلح فقط للاستعراض (اوبرا، فنون تشكيلية، غناء…) وذلك نسبة لمساحتها التي لا تشكل ثلث نسبة المسارح الدرامية المطلوبة.

على أمل…
ورغم ذلك يأمل زين الدين بأن يبصر مشروع المسرح الوطني النور، وينتظر أن يأتي وزير للثقافة يؤمن باسم الوزارة التي تقلّد زمام أمورها، علما انه على يقينٍ ضمني بأن وزارة الثقافة ما هي الا امتداد للحياة السياسية في لبنان التي تعمل جاهدة على طمس معالم هوية لبنان الثقافية…. ونحن بدورنا نضم آمالنا الى رهاناته المستقبلية على وزارة تحمل مسؤولية الهدف الاساسي الذي انشئت من أجله، ونأمل بأن تكون كلماتنا هذه بمثابة لفت نظر للوزير الحالي على مشروعٍ عمره أربع سنوات ولكنه يحلّ أزمة ثقافية عمرها عشرات السنين، ولذلك يستحق ذلك المشروع أن يكلّف عريجي نفسه عناء قراءة الملفات النائمة في أدراج الوزراء السابقين.

 

http://beirutpress.net/

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *