(عين) المسرح .. وخراب العالم / ياسر البرّاك – العراق

على الدوام كان المسرح لصيقاً بحياتنا اليومية ، مرة في تفاصيلها الصغيرة ، ويومياتها ، ومشاكلها الإجتماعية ، ومرة أخرى في أسئلتها الوجودية ، وإشكالياتها الفلسفية ، وأسرارها الجوّانية ، لذلك نجد الخطابات المسرحية تنوعت بتنوع الحياة الإجتماعية نفسها ، بل أن الحياة الإجتماعية تأثرت بالمسرح وديناميكيته في التعامل مع مفردات تلك الحياة ، وإن بنسب متفاوتة من مكان لآخر ، ما يعني أن العلاقة بين الحياة الإجتماعية والمسرح علاقة جدلية تخضع لمؤثرات التأثير والتأثر بحسب الظروف المحيطة بكلٍّ منهما ، الأمر الذي أدى إلى أن تكون المدوّنات الأدبية على الورق ، ومن بعدها البصرية على خشبة المسرح بفعل الممارسة الإخراجية ، إنعكاساً لحياتنا الإجتماعية ، مرة بصيغته الفوتوغرافية ، وثانية برؤيا جمالية فيها الكثير من ملامح الإبتكار والتجديد والإبداع ، لذلك نجد ثمة تنوعاً واضحاً في خارطة المشهد المسرحي العالمي وبضمنه المشهدين العربي والعراقي ، ولأن المؤلف سواء في صيغته التقليدية ، أو في شكله المعاصر حيث أصبح مخرج العرض هو الباني والمؤسس للرؤية الأدبية للنص ، فضلا عن الفرقة المسرحية التي تقوم بتأسيس المفردات الأدبية للنص عبر تقنية الإرتجال التي تُعدُّ ملمحاً من ملامح المسرح الحديث ، مازال يشغل الحيز الأكبر من مفردات العملية المسرحية ، فقد دأبت ( جماعة الناصرية للتمثيل ) بوصفها فرقة مسرحية على الإهتمام بالفعل التأليفي عبر مستويات عدّة أبرزها :

تكييف النصوص المسرحية العالمية والعربية بما يتماشى وضرورات تجربتها المسرحية من أجل أن تكون تلك النصوص مهيئة للمتلقي المحلي ، وتتم عملية التكييف تلك عبر إعادة كتابة تلك النصوص مرة أخرى ، سواء عبر الممارسة الدراماتورجية التي تعيد حيثيات النص بما يتناسب مع الوضع الراهن بوصفهم منتجين للخطاب المسرحي بإعتماد تقنية الإعداد أو الإقتباس ، أو من خلال الممارسة الإخراجية التي تقوم بقص كل الزوائد التي تراها الرؤية الإخراجية غير ملبية لما تريد الجماعة قوله في العرض المسرحي ، إذ يجري قلب البنية الأدبية للنص في شكلها التقليدي لصالح بنية جديدة ومبتكرة متخذة شكلاً جديداً يتوافق مع الشكل البصري للعرض .

وضع النصوص العراقية على المحك عبر إعادة إنتاجها على خشبة المسرح ، ليس من منطلق الشعار التقليدي الذي يرفعه الكثيرون ( تشجيع المؤلف المحلي ) فحسب ، بل من منطلق إختبار القدرة على إنشاء نوع من التكاملية في العرض المسرح تنطلق من فكرة ( الهوية الوطنية ) في صياغة الخطاب المسرحي ، وبما يتماشى مع سعي الجماعة المسرحية لتقليل مسافة الغربة الواسعة بين الخطاب المسرحي والمتلقي المحلي الذي لا يشعر – على الأغلب – بالإنتماء لفكرة المسرح في بُعدها الوجودي .

تقديم رؤى المؤلفين الشباب إلى الجمهور ، مرة عبر خشبة المسرح ، وأخرى عبر المساهمة المادية والمعنوية في طباعة نصوصهم المسرحية ، من أجل تصديرهم إلى المشهد المسرحي المحلي أولا ، والعراقي ثانياً ، فضلاً عن المشهد العربي ، بعد مراجعة تلك النصوص ومعالجتها نقدياً .

إقامة الورش المسرحية في التأليف المسرحي عبر الممارسة النظرية والعملية ، وتعليم أعضاء الجماعة أبجديات الكتابة المسرحية ، سواء تلك الكتابة الأدبية التي تقتصر على الورق ، أو الكتابة بالصوت والجسد على خشبة المسرح عبر تقنية الارتجال في صياغة العروض المسرحية ، تلك العروض التي تكون مرة بدون نص مسبق ، وأخرى بوجود نص محدد يتم الارتجال من خلاله .

توفير مناخ ( المثاقفة ) المسرحية فيما يتعلق بالنص المسرحي والكتابة الأدبية عبر التوجيه المستمر لقدرات وإمكانيات أعضاء الجماعة ، من خلال المتابعة الدقيقة والمستمرة لما يكتبونه وتوصيل انجازاتهم الفردية بحركة النقد بداخل فضاء الجماعة الثقافي ، من أجل أن تكون تجاربهم مؤسسة على خبرات علمية وأكاديمية .

ساهمت الآليات أعلاه في إنضاج العديد من تلك التجارب التي بدأت خلال السنوات الأخيرة تجتاز محليتها لتكون رقماً مهماً من أرقام بروغرام المسرح العربي ، فضلاً عن حصادهم لجوائز عربية في ميدان النص وفي مقدمتهم الكاتبين علي عبد النبي الزيدي وعمار نعمة جابر ، ولن تكون هذه الأقلام الأخيرة في عطاء الجماعة ، بل أنها مازالت تضخ أقلاماً جديدة تكتب نصوصاً مغايرة تماماً لطبيعة المنجز المحلي والوطني ، وأحدث تلك الأقلام ما يكتبه المؤلف الشاب ( مصطفى ستار الركابي ) الذي نتفائل كثيراً بموهبته المبكرة متجسدة في هذه المجموعة من النصوص ( حفل الإفتتاح الأخير ) الصادرة عن دار تموز في دمشق في طبعتها الأولى لعام 2013 ، التي نعتقد أنها ستضيف منجزاً مهما لمسرحنا العراقي .

في مسرحيات الركابي ثمة ميل واضح للإفادة من تيار مسرح اللامعقول ، وعلى الخصوص الأساليب البيكيتية المُؤسَّس لها في مسرحيات ( صموئيل بيكيت ) ، حيث نجد الإنتظار ثيمة مهيمنة على أغلب المسرحيات ، وإن كان ذلك الإنتظار متنوعا بأشكال تعبيرية مختلفة ، فضلاً عن إنتفاء فكرة التواصل بين الشخصيات تعزيزاً لشعور الغربة التي ينتابها طوال حدث المسرحية ، ناهيك عن الأجواء الكابوسية التي نجدها حاضرة في النصوص الخمسة ، لذلك نجد الركابي في نصوصه هذه يهتم بالمهمش والثانوي من الحياة الإجتماعية والنفسية لشخصياته التي تكون في الأغلب بلا تاريخ ، ما يعني أنه يكتب عن خراب مركّب ، يبدأ هذا الخراب من الذات أولاً ، ويمرّ عبر الآخر ثانياً ، لينتهي عند خراب العالم ، والخراب هنا ليس خراباً بمعناه المادي ، بل يتعداه إلى الخراب المعنوي ، خراب في الروح ، وخراب في القيم ، وخراب في المواقف ، ويتجسد هذا الخراب بأشكال عدَّة ، أحياناً يكون عبر أفعال جسدية تقوم بها شخصياته ، وأحياناً أخرى عبر ملفوظات حوارية تعزز الفعل النفسي بداخل النص ، متخذاً من التجريد سمة واضحة في لغة الحوار أولاً وفي علامتي الزمان والمكان ثانياً ، لأنه لا يريد الحديث عن يوميات الشخصيات إلا بقدر تأثير تلك اليوميات في تكوينها الأنطولوجي ، أي أنه يأخذ من الواقع والحياة الاجتماعية ثيماً غير مفكر فيها ، أو أنها مهملات لا يمكن تصديرها سيميائياً كفعل مسرحي قابل للتقويل على فضاء الورقة البيضاء أولاً ، وعلى فضاء الخشبة بعد ذلك ، وهذا التجريد العالي في نصوصه ينسحب على مساحة الرؤية الأدبية ، فالركابي لا يكتب نصاً مسرحياً بالمعنى الأدبي للنص ، إنما يكتب نصاً يضم بين تضاعيف رؤيته الأدبية نصاً إخراجياً ، بمعنى أنه يكتب نصه بروح دراماتورجية ، تلك الروح التي تزاوج بين خيال المؤلف وقدرة المخرج على تجسيد ذلك الخيال على خشبة المسرح برؤية بصرية ، ودليلنا في ذلك أن الركابي يهتم كثيراً بالنص الثانوي في نصوصه ( إرشادات المؤلف ) ويجعل منه نصاً موازياً لنصه الأدبي المُكوَّن من الميكانزمات التقليدية ( الشخصيات ، الصراع ، الحبكة ، ….. الخ ) .

في مسرحية ( بنيلوبي ) يستعير الركابي رمزاً أسطورياً إغريقياً ليتخذ منه قناعاً للبوح ، وأهم ما يفعله أنه يُفرِّغ ذلك الرمز من مرجعياته التاريخية ، بمعنى تعصيره ( جعله معاصراً ) والقذف به أمام القارئ / المتلقي ليجد فيه بعضاً من مأساته ، خاصة تلك المأساة التي تولّدت عن حروب عبثية ساهمت في وأد الأحلام ، ويتم ذلك عبر تشطير الرمز الأسطوري المتجسد في شخصية ( بنيلوبي ) ، مبتعداً فيه عن التعامل الشكلي مع الرمز ، لتصبح مفردات الإنتظار ، والإخلاص ، والأنوثة المهدورة ، مهيمنات واضحة في النص ، فضلاً عن ذلك فهو يعزز تشطيره ذاك بخلق مستويات عدَّة للغة المسرحية مستعيراً بعض السياقات اللغوية القرآنية ومتناصاً معها كما في سورة الفيل القرآنية التي تعزز القيمة اللغوية لحوار الشخصيات عبر اللعبة التناصية التي تمد حوار الشخصيات بالثراء اللغوي وتعين الحدث في ثيمة الخراب المركزية التي يعالج النص بعضاً من وجوهها .

تصبح اللغة في مسرحية ( W . C ) ليست أداة لنقل الأفكار كما هو الحال في المسرحيات الواقعية ، بل تكون مكمّلة لأفعال تكرارية نجدها في إرشادات المؤلف ( النص الثانوي أو الموازي ) ، لذلك نراها لغة مفككة تعتمد على الجمل القصيرة المبهمة ، فتصبح مفردة المرحاض بحضورها المادي في سياق الفعل المسرحي في النص رمزاً لواقع مأزوم يتم التعبير عنه بوساطة الرجل الذي يجلس على المرحاض متضايقاً من عدم قضاء حاجته ، تلك الحاجة التي تصبح معادلاً موضوعياً لأحداث تقع في الواقع تتجسد في هيئة أفعال لدى الشخصيات الأخرى تقوم بها شخصيتي ( العجوز ، والرجل ) وهي بمجملها أفعال تنحو بإتجاه التجريد .

يوجه الركابي في مسرحية ( حفل الإفتتاح الأخير ) إهتمامه صوب شخصية المثقف بوصفها بيضة القبّان في المعادلة الوجودية التي تعيشها البشرية ، فالمثقف – على الدوام – كان محط حركة التاريخ بوصفها محرّكا فاعلاً في تلك الحركة فهو صانعها ، وهو المؤثر فيها ، مُظهراً لنا تقهقر سلطة المثقف أمام سلطة الدكتاتورية عبر ثلاثة شعراء وعريف حفل واحد ، خالقاً بذلك عالمين ، عالم الشعراء ( الكواليس ) وهو العالم المرئي الذي نراه أمامنا ، وعالم السلطة / الدكتاتورية الذي يقع في قاعة المسرح والمنصة ، وهو عالم غير مرئي لا نراه أمامنا عبر تقنية فنية مبتكرة يشكل فيها عريف الحفل جسراً بين هذين العالمين ، فضلاً عن الأصوات التي تنقل لنا ما يجري في الصالة ، مُظهراً لنا الشعراء وهم في الكواليس وكأنهم شاعراً واحداً ، ما يعني أن هذه الصورة النمطية للمثقف الخانع هي نفسها في كل الدكتاتوريات ، معتمداً على المفارقة الدرامية التي تأتي في نهاية المسرحية مانحة الحدث المسرحي قوّة وغرابة بعد أن يخرج الشاعر أمام الدكتاتور ليتهم عريف الحفل بمحاولة قتل سيادته مستخدماً عناصر الشد ، والتشويق ، والتوتر تمهيداً لهذه المفاجأة التي تأتي في خاتمة المسرحية .

تهيمن في مسرحية ( للكبار فقط ) ثيمة العقم حيث تصبح معادلة الحياة / الموت مولِّدة لأحداثها ، فالعجوز غير القادرة على الإنجاب يقابلها ( الشخص ) غير القادر على ممارسة الفعل الجنسي الذي يضطره إلى الإستعانة ببديل عنه ( الرجل ) ، ولذلك يحتشد النص بالمرموزات في مستوياتها السيميائية مثل : الدكان ، اللافتات السود ، الكاميرا ، ماكينة الخياطة ، اللوحة غير المكتملة ، ما يعني أن الركابي يعزز الفرضية النقدية التي تحدثنا عنها في مطلع هذه المقدمة من أنه يكتب نصاً إخراجياً أكثر من كونه نصاً أدبياً ، لذلك نجده يستخدم الكاميرا السينمائية بوصفها جزءً من الحدث معززاً التقنيات البصرية في نصه ، عبر إستخدامها لتسجيل وتوثيق إعترافات الشخصيات ، فضلاً عن إشغال الحدث العام للنص بهيمنة أو سلطة الكاميرا التي تُعدُّ معادلاً موضوعياً لسلطة أخرى موجودة في الواقع .

أما في مسرحية ( مطلقات يبحثن عن …. ) فيلج الركابي عالم المرأة التي نجد لها حضوراً طاغياً في نصوصه الخمسة ، ويكون هذا الولوج أيضاً عبر الدافع الجنسي بوصفه مولداً للحدث المسرحي ، إذ أن فعل الطلاق يعني التوقف عن ممارسة الحياة الطبيعية في شكليها البايلوجي والسايكلوجي ، لذلك نجد فعل التشبث بالحياة يندرج ضمن الرغبات المعلنة للشخصيات التي تجعل من الشاب القذر أملاً في خصوبة مقموعة ، ناهيك عن العامل الديني الذي يبرز بوصفه محركاً آخر من محركات الدافع النفسي لدى الشخصيات حيث يصبح الدين فعلاً ديماغوجياً يضلل الشخصيات عن واقعها الحقيقي ورغباتها المكبوتة ، متخذا من فعل الرقص تعبيراً حسياً وجسديا عن تلك الرغبات .

يقيناً أن ما يخطَّه الكاتب الشاب مصطفى ستار الركابي في نصوصه الخمسة يمثل مرحلة جديدة من مراحل تطور الكتابة المسرحية الشابة ، تفتح لنا أفقاً للتوقع بظهور أجيال مسرحية قادمة تتولى مهمة التعبير عن حياتنا الإجتماعية المعاصرة برؤى فنية جديدة ومتجددة ترسم لنا صورة مستقبل مسرحنا العراقي .

——————————————

المصدر : مجلة الفنون المسرحية

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *