(عين) المسرح العربي وتحديات الراهن..التاريخ.. الأرشفة.. التنوع.. التحدي.. الإرهاب 2-3

وإذا طالب فاضل الجاف بضرورة مواكبته للعصر حتى يكون مسرحا متطورا، يجد الدكتور حميد علاوي ، إن المشكلة في المسرح العربي تكمن في النص وكيفية التعامل معه بوصفه عرضا ، بعيدا عن ادبيته ، وينظر علاوي في (مسرحة الراهن، الكائن والممكن) إلى النص بوصفه فعلا تواصليا، من خلال قدرته التوليدية عند تحويله إلى عرض، وقدرته التأثيرية الآنية لحظة تقديمه على الخشبة، على اعتبار أن المسرح (فن زمني بامتياز يقوم على قاعدة “يحدث الآن” حتى لو تعلق الأمر بمشروع مستلهم من التراث).
ويستشهد الدكتور علاوي بالنصوص الكلاسيكية العظيمة التي ظلت خالدة والتي مازالت تقدم في معظم مسارح العالم، ومنها التراجيديات الإغريقية ونصوص الانكليزي وليم شكسبير، رغم أنها نصوص لا تنتمي زمنيا إلى الآن/ الراهن. ولهذا مازال سؤال هاملت الفلسفي “أكون أو لا أكون” حاضرا وبقوة، وقد يكون حاضرا في القرون القادمة إذا حضر الراهن الآني نفسه مستقبلا. 

ويخلص علاوي إلى وجود أزمة نص مسرحي في المنطقة العربية. وقد يكون هذا الطريق بسيطا وتكرارا لإقرار طالما سمعناه، أي ابتعاد النصوص المسرحية عن القضايا الإنسانية، واعتماد المخرجين على نصوص عالمية. ونرى في ذلك تعميم وحكم قيمة من الصعب تقبله على كل ما ينتج من نصوص مسرحية في المنطقة العربية، لأنه لا يمكن أن يكون الدكتور علاوي قرأ كل النصوص العربية أو شاهد كل العروض المسرحية. فهناك العشرات من النصوص المسرحية التي تنتج سنويا، وهناك مؤلفون رسخوا أسماءهم بقوة في المشهد المسرحي العربي، ومنهم على سبيل المثل لا الحصر: (فلاح شاكر، علي عبد النبي الزيدي، اسماعيل عبدالله، طلال محمود، الزبير بن بوشتي، أحمد السبيعي، صفاء البيلي، وغيرهم الكثير). لكن المشكل الأهم- حسب ظني- اغتراب الملفوظ بين الثقافات العربية. ونعني اعتماد الكثير من الكتاب اللهجة المحلية في نصوصهم وهذا ليس مثلبة، لكن يقابله رفض قرائي من المخرجين العرب، رغم أهمية ما يطرح من قضايا تعتد بالراهن اليومي وتداعياته داخل المجتمعات العربية.

ولعل نصوص علي عبد النبي الزيدي والزبير بن بوشتي مثالان مهمان في هذا الجانب، لاعتمادهما على موضوعات عالية الحساسية. ويمكن تقديمها كعروض في أي بلد عربي. وقد فات الدكتور علاوي بأن هناك مسابقات سنوية للنصوص المسرحية للكبار والصغار ويتم تقييم كتّابها معنويا وماديا. ومن ثم طباعتها ككتب مقروءة وتوزيعها. ولذلك لا نجد بأن هناك أزمة نص مسرحي بل أزمة وعي مسرحي، وأزمة متابعة ومشاهدة. كما نرى بأن المسرح في المنطقة العربية لا يتطور بحكم ارتكانه إلى مستويات عرضية ركيكة لا تعتمد المغايرة الجمالية والمشاكسة الإخراجية على المستوى البصري واللفظي، بل ظلت قرينة المكرر والعادي.

المسرح بوصفه ممارسة اجتماعية تنويرية ، يحتاج إلى الوعي ، من أجل الالمام بكل التمظهرات السياسية والاجتماعية ، ومن ثم إسقاط وعي صناع العرض على المتفرج ، وتجد الناقدة السعودية حليمة مظفر بأن (المسرح… صناعة الوعي)، وذهبت إلى عمق ماهية الممارسة المسرحية أو وظيفة المسرح، بل طرحت مقاربة معرفية مهمة استنادا إلى أفكار المفكر محمد أركون من خلال الأنسنة وإسقاطها على المسرح، أي أنسنة الخطاب المسرحي ومسايرته للمتغيرات العربية وتحدياتها الراهنة. وترى في هذا السياق بأن (المسرح العربي ابن بيئته وظروفه وثقافته.. [ و أن] المسرح هو صنيعة الوعي نقص أو زاد. وإذا كان يعاني قبل الثورات العربية الضعف وقلة الدعم والتقليد ومصادرة الرقيب له، فإن معاناته زادت بعد الثورات العربية وباتت أكبر تحدياته تتمثل في أنسنة الخطاب الدرامي، والخروج من عنق زجاجة النرجسية الايديولوجية التي تأججت بعد فوران (الثورات العربية) نتيجة حرية لم تتنفس سوى شعارات يكتبها الحالمون العرب أثناء نومهم في الكهف).

 وتؤكد الناقدة على أهمية أنسنة الخطاب المسرحي بعدما أهدرت إنسانيته تداعيات الثورات العربية المتسارعة التي فرقتها الايدولوجيات عقائديا، ومذهبيا، وعرقيا ما أدى إلى غربة الإنسان وتقوقعه على ذاته المتشظية بين الايديولوجيات التي تأخذه يمينا وشمالا.

وتكمن أهمية ورقة حليمة مظفر بتخليص الخطاب المسرحي من الايديولوجيات الحزبية، والطائفية، والعقائدية، والعرقية مقابل طغيان الخطاب الإنساني داخل النص وفق مفهوم أركون للأنسنة. لكن كيف سيتحقق ذلك من دون قراءة مختبرية لنماذج منتقاة، لتأكيد أهمية البحث والطرح، لأنه من السهل جدا وضع المقاربات المعرفية على الورق والربط بينهما، ولكن التطبيق يشكل إحدى المعضلات الكبيرة التي تواجه الباحث.

إن تصورات مظفر مهمة جدا على المستوى النظري، بيد أن هذا لا يعني بأن الخطاب المسرحي بعيد عن الأنسنة، فإذا كان لا يستخدم ذات المصطلح، فإنه في جوهره إنساني. فالخطاب المسرحي برمته يتناول الإنسان ومشاكله وتداعيات الأحداث، كما في المسرح الإغريقي عبر نصوص سوفوكلس، واسخيلوس، ويوربيدس التي هدفت إلى التطهير وتخليص الإنسان من الخطايا والآثام. وتحتفي نصوص شكسبير بالإنسان أولا وأخيرا وتعري طموحه السلطوي كما في مسرحية رتشارد الثالث، وتمجد طهرانية المرأة ونبلها كما في عطيل وهاملت، وغيرها من النصوص، وتناول خطاب مسرح العبث تداعيات الحضارة والحروب على الإنسان، ولعل مقولة بكيت في نص: في انتظار كودو (لا شيء .. لاشيء) تختصر سلطوية الآلة ودمويتها على الإنسان، بعد أن دمرته الحروب وانتهكت انسانيته. أما على المستوى العربي فإن الخزانة المسرحية تشير بلا عناء إلى نصوص سعد الله ونوس ويوسف العاني والفريد فرج وعبد الكريم برشيد وغيرهم إلى الخطاب الإنساني، ونريد أن نخلص إلى أن النص المسرحي منذ نشأته كان ذا خطاب انساني. ويبقى السؤال ولعل هذا ما تريد الباحثة الوصول إليه: كيفية توظيف الأنسنة وتخليص النص المسرحي من التبعية الايديولوجية، وأن يكون هدفه إنساني بالمقام الأول بعيدا عن تدجينه بثقافة مذهبية وعقائدية وعرقية ضيقة والأهم ايديولوجية.

ولكن السؤال: هل العرب هم أول من مارس المسرح ، وبالتالي نستطيع توظيف التداعيات الاجتماعية والمسرح والراهن العربي بكل تجلياته مسرحيا؟ ويأتينا الجواب من الدكتور سعيد طاجين في بحث حمل عنوان: (خطاب المسرح العربي بين الأنا والآخر)، بصيغة سؤال ايضا: هل كان المسرح العربي يحاكي خطاباً لم يساهم في إنتاجه؟ إذ أكد أن المسرح العربي في أغلبية انتاجاته المسرحية يعتمد على نصوص عالمية أوروبية وأمريكية. فالمسرح العربي يسعى لاسترداد ما ينتجه الآخر ويعيد تقديمه عن طريق الاقتباس، أو الترجمة، أو الكتابة الدراماتورجية، ونمّت هذه العملية فعل النقل مقابل نكوص دور العقل. وهكذا خلص إلى أن المسرح العربي فقد العقل المفكر الخلاق، واجتهد بالنقل من الآخر. وقد يكون الدكتور بوطاجين محقا في ورقته، لكنه تناسى بأن المسرح هو في حالة تأثير وتأثر منذ نشأته إلى الآن.

وإذا كانت هناك هويات وخصوصيات أنتجها المسرح، فهي فردية. ومن جانب آخر لم يعرف العرب المسرح والعرض المسرحي إلا عن طريق الآخر، ما رسخ فكرة التقليد والاستعارة التي ابتدأت منذ تعرفنا عن المسرح بوصفه عرضا في بيت مارون النقاش عام 1847 . ففكرة التأصيل والهوية فكرة حالمة يتشدق بها المسرحيون في مهرجاناتهم ومؤتمراتهم، ناسين أننا نمارس مسرحا كباقي البلدان. فالمسرح لا يغازل الهوية ولا يتوسل بجغرافية ضيقة ولا يدجن ضمن ايديولوجيا مقيتة، بقدر توسله بالجمال والإنسان

د. أحمد شرجي 
 

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *